حلف الأطلسي عليه أن يهزم عدو الداخل أولا
انتعشت العلاقات عبر ضفتي الأطلسي بقوة بعد وصول الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى المكتب البيضاوي، لكن استيلاء حركة طالبان السريع على أفغانستان وإجلاء الرعايا الأجانب والأفغان المعرضين للخطر على هذا النحو الفوضوي أدى إلى إفساد المزاج. هذا الانزعاج الأوروبي إزاء تعامل بايدن مع الانسحاب من أفغانستان، إلى جانب الانتخابات الفيدرالية المقبلة في ألمانيا في 26 من أيلول (سبتمبر)، يجعلان هذه اللحظة مناسبة تماما لمراجعة وتقييم التحالف الأطلسي.
تعمل أربعة تغيرات جيوسياسية جوهرية على إعادة تشكيل العلاقات عبر الأطلسي، أولا، على الرغم من نجاة الارتباط عبر الأطلسي من تأثير دونالد ترمب، فإن رئاسته "واقترابه الشديد من إعادة انتخابه"، التي اقترنت بصعود الشعبوية غير الليبرالية التي انتقلت عدواها إلى أوروبا أيضا، كشفت عن هشاشة الديمقراطية الليبرالية في معاقلها التاريخية. هذا الخطر الداخلي، وليس الصين، أو روسيا، أو التطرف العنيف، هو الذي ربما يشكل التهديد الأعظم الذي يواجه مجتمع عبر الأطلسي اليوم. وفقا لتقرير جونتر هيلمان أستاذ العلوم السياسية في جامعة جوته في فرانكفورت.وتشارلز أ. كوبشان، زميل أول في مجلس العلاقات الخارجية، وأستاذ الشؤون الدولية في جامعة جورجتاون ومؤلف كتاب "العزلة: تاريخ الجهود الأمريكية لحماية نفسها من العالم".
ثانيا، على الرغم من أن انتخاب بايدن أعاد تنشيط روح التعاون الأطلسي، فقد تمكن الضعف من الأسس المحلية التي تقوم عليها العالمية الأمريكية إلى حد بعيد. ينظر الحلفاء في منظمة حلف شمال الأطلسي "الناتو" إلى انسحاب الولايات المتحدة المتسرع من أفغانستان على أنه علامة مثيرة للقلق، حيث يشير إلى أن "سياسة بايدن الخارجية الداعمة للطبقة المتوسطة" تعني التركيز على الجبهة الداخلية واستمرار تراجع النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط. علاوة على ذلك، قد يعني انشغال أمريكا بالصين على المستوى الاستراتيجي تضاؤل القدر الذي تخصصه الولايات المتحدة لأوروبا من الاهتمام والموارد، وربما يعني ضمنا تعاظم التوقعات بتضاعف الجهود التي يبذلها الأوروبيون لتوفير الأمن لأنفسهم بأنفسهم.
ثالثا، خضع الاتحاد الأوروبي ذاته لتغيرات كبرى في الأعوام الأخيرة، فقد تمكن الضعف من تماسكه الداخلي في مواجهة أزمة الهجرة، وخروج بريطانيا، وجائحة مرض فيروس كورونا 2019، وسيطرة الحكومات غير الليبرالية العنيدة على السلطة في أوروبا الوسطى. الواقع أن الضغوط الداخلية المفروضة على التضامن في الاتحاد الأوروبي تعمل على تعزيز الحاجة إلى قيادة ألمانية، لكنها تزيد أيضا من تحفظ الآخرين إزاء النفوذ الهائل الذي تتمتع به ألمانيا.
يتمثل التغير الرابع في طموح الصين الاستراتيجي، وتنامي نفوذها العالمي بفضل مبادرة الحزام والطريق العابرة للحدود الوطنية. لا يتمتع التحالف الأطلسي الآن بالهيمنة المادية والأيديولوجية التي كانت من سماته ذات يوم، ويجب أن يعكف على تكييف أولوياته الاستراتيجية وفقا لذلك.
للحفاظ على مركزيته وتماسكه وسط هذا المشهد العالمي المتغير، ينبغي للمجتمع الأطلسي أن يسعى وراء عدة أهداف. على رأس أولوياته، يتعين عليه أن يهزم العدو في الداخل من خلال معالجة المصادر الأساسية للشعبوية غير الليبرالية. صحيح أن الظروف ليست متطابقة في الولايات المتحدة وأوروبا، لكن الحوار عبر الأطلسي حول الحد من انعدام الأمان الاقتصادي، ورسم خريطة لمستقبل العمل في العصر الرقمي، والتعافي من جائحة كوفيد - 19 شروط أساسية. تتمثل أولوية عليا أخرى في تطوير سياسات الهجرة التي تفي بالالتزامات الأخلاقية والاحتياجات الاقتصادية الأمريكية والأوروبية لكنها كفيلة أيضا بتأمين حدودهما. خلافا لذلك، ستستمر العناصر الجاذبة في السياسات المعادية للمهاجرين والأجانب في اكتساب مزيد من الثقل.
أما عن حلف شمال الأطلسي والارتباط الأمني بين أمريكا الشمالية وأوروبا، فإن الحديث عن إعادة التوازن إلى العلاقة عبر الأطلسي يجب أن يصبح حقيقة واقعة. يتعين على الأعضاء الأوروبيين في حلف شمال الأطلسي، وألمانيا بشكل خاص، تحمل نصيب أكبر كثيرا من أعباء الدفاع ورفع مستوى قدراتهم العسكرية واستعدادهم. في الواقع، يجب أن تصبح ألمانيا الدولة صاحبة القوة العسكرية التقليدية الكبرى في الركيزة الأوروبية التي يستند إليها حلف شمال الأطلسي. ويجب أن تظل الولايات المتحدة العمود الفقري العسكري الوجودي للحلف، لكن لا ينبغي لها أن تدير العرض بعد الآن. في الوقت ذاته، ستتنامى الأهمية السياسية لوجود القوات الأمريكية في أوروبا، وهذا من شأنه أن يطمئن الحلفاء الأوروبيين إلى أن مزيدا من القوة الألمانية يعني مزيدا من الأمن.
يسير الدور الأمني الأوروبي الأكثر نشاطا كتفا بكتف مع زيادة القدرات. مع استمرار الولايات المتحدة في الانسحاب من الشرق الأوسط الكبير، يتعين على الأوروبيين ــ سواء من خلال الاتحاد الأوروبي أو حلف شمال الأطلسي ــ أن يعملوا على شغل بعض الفراغ للمساعدة على تعزيز الاستقرار في مناطق الاضطرابات مثل ليبيا، وسورية، وأفغانستان، وناجورنو كاراباخ. الواقع أن أوروبا الأكثر اقتدارا ونشاطا يمكنها اكتساب مزيد من الدعم الشعبي والتحول إلى شريك أكثر فاعلية للولايات المتحدة، ما يعزز العلاقة عبر الأطلسي. في المقابل، كلما زادت أوروبا من نزوعها إلى الركوب بالمجان على حساب الولايات المتحدة، تزايدت سرعة فقدان الأوروبيين الثقة بالاتحاد الأوروبي، وكلما تعاظمت سرعة نفاد صبر الولايات المتحدة، زاد ضعف العلاقات عبر الأطلسي.
أخيرا، يتعين على الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين أن يعكفوا على تشكيل جبهة أكثر اتحادا في التعامل مع الصين. هذا لا يعني أن الأوروبيين ينبغي لهم أن يحتشدوا وراء رؤية بايدن لصدام بين الديمقراطية والاستبداد يحدد هيئة العالم. على العكس من ذلك، ينبغي لهم أن يشجعوه على التخفيف من حدة خطابه والتعامل مع الصين على أنها منافس مقتدر، وليس باعتبارها عدوا لدودا لا يلين. ولأن أوروبا تظل تشكل حليفا مهما، فإنها قادرة على مساعدة الولايات المتحدة المفرطة الحماسة في التوصل إلى المزيج الصحيح من الاحتواء والمشاركة.
لكن أوروبا يجب أن تقابل الولايات المتحدة في منتصف الطريق من خلال تشديد موقفها تجاه الصين. من المؤكد أن الانفصال الاقتصادي ليس بالخيار الوارد، ذلك أن الصين مندمجة إلى حد بعيد في الاقتصاد العالمي. مع ذلك، يجب أن يقاوم الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة معا الممارسات التجارية غير العادلة من جانب الصين وأن يعمل على مواءمة السياسات بشأن ضوابط التصدير، وإعادة سلاسل توريد التكنولوجيات الحساسة إلى الداخل، وتنظيم الاستثمار الصيني في الخارج. ينبغي للديمقراطيات الأطلسية أن تستمر أيضا في التحدث بصوت واحد فيما يتعلق بحقوق الإنسان في الصين.
علاوة على ذلك، تستلزم الاستراتيجية الأطلسية الفاعلة في التعامل مع الصين بذل جهود أمريكية أوروبية مشتركة لتحسين العلاقات مع روسيا. الواقع أن العلاقة الصينية الروسية الحالية تعمل على تعظيم التحدي الجماعي الذي تفرضه الدولتان على أمريكا وأوروبا بدرجة عظيمة. والسعي إلى تحقيق انفراجة محسوبة مع روسيا ــ كما اقترح القادة الأوروبيون، بمن فيهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير ــ من شأنه أن يساعد في الحفاظ على مسافة بين الصين وروسيا. لا يزال الرئيس فلاديمير بوتين محاورا صعب المراس، لكنه قد يرحب بالتواصل الغربي، نظرا إلى تاريخ روسيا الطويل من التوترات مع الصين، وانزعاج الكرملين الحتمي إزاء كونه شريك الصين الأصغر حجما.
يتمتع الحلف الأطلسي بفترة من الترميم والشفاء بعد الضرر الذي ألحقه به ترمب، لكن كما يوضح خروج الغرب الفوضوي من أفغانستان، يتعين على الحلف أن يتعهد ببذل جهود حازمة لإعداد نفسه للتحديات الهائلة المقبلة.