دبلوماسية قروض صينية أم استعمار جديد؟
عادت الصين بقوة، منذ مطلع الألفية الثالثة، إلى الساحة الدولية، بحثا عن موطئ قدم، لمزاحمة القوى التقليدية الكبرى. واعتمدت القوة الناعمة في سياسة التوسع والانتشار، بإطلاق مبادرة "طريق الحرير الجديد" 2013، التي تستهدف الدول النامية، خصوصا الموجودة على السواحل في القارتين الإفريقية والآسيوية، بالنظر إلى الأهمية الاستراتيجية التي تحظى بها الممرات البحرية في المشروع.
لذا تسارع الصين إلى تقديم المساعدات للدول النامية، قصد تشييد البنيات التحتية الضرورية للانخراط في المبادرة، من قبيل الطرق والموانئ والمطارات، وغيرها. عادة ما تكون تلك المساعدات عبارة عن قروض، تمنحها بكين لهذه الدول دون اعتبار لقدرتها على السداد من عدمه، لدرجة تعتقد معها هذه الدول أنها قروض شبه مجانية، من دولة عظمى بحجم الصين. تروم بناء حلف من الأتباع والمؤيدين، تستند إليه في معركة التدافع والصراع ضد الولايات المتحدة الأمريكية.
وجدت الصين في "دبلوماسية القروض" السبيل المثلى لتوسيع نفوذها، معتمدة أسلوب "العصا والجزرة"، حيث تغري الدول بالانخراط في المشروع المميز للسياسة الخارجية الصينية، الذي يعرف بمشاركة 138 دولة، و30 منظمة دولية، بقيمة هائلة تصل إلى ثمانية تريليونات دولار، قبل أن تغرق حكومات هذه الدول في مستنقع الديون، بمنحها مليارات الدولارات في شكل قروض بشروط خاصة، تدرك جيدا أن دولا كثيرة لن تقدر على دفع الديون ولا فوائدها، لتجد نفسها ضحية "فخ الديون".
ينسب مصطلح "دبلوماسية فخ الديون" إلى براهما تشيلاني المفكر والأكاديمي الهندي، واستخدمه في معرض انتقاده سياسة الحكومة الصينية التي تعطي قروضا ضخمة للدول، لكنها في المقابل تستولي على الأصول الاستراتيجية لها، كضمان للقروض في حال العجز عن السداد، في معرض حديثه عن استراتيجية التنين الصيني الرامية إلى استغلال الموارد في العالم الثالث، وغزو الأسواق المحلية بالسلع الصينية منخفضة الجودة، وحتى باليد العاملة للمنافسة على الوظائف المحلية.
ترفض الصين هذا الادعاء، فقصة "فخ الديون" مجرد أسطورة للتشويش على المبادرة الصينية الرامية إلى إنقاذ الجزء المنسي من العالم، ومحاولة لوقف زحف الشركات الصينية في مجال أعمال البناء الدولية التي تهيمن عليها أوروبا. فالصين تملك حاليا 27 شركة، من بين أكبر مائة مقاول عالمي، بزيادة 16 شركة عن عام 2000، فيما انخفض العدد في أوروبا من 41 شركة إلى 37 فقط، وكذا الولايات المتحدة التي فقدت 11 شركة، من 19 إلى سبع، في غضون عقدين من الزمن.
وتبرئ نفسها من هذه التهم، بالتذكير بما جرى في القمة الصينية الإفريقية الأخيرة، حيث أعلنت بكين الإعفاء من الديون لأكثر من 15 دولة، وتأجيل موعد سداد ديون دول أخرى، كانت مستحقة بنهاية 2020. في السياق ذاته، نشير إلى أن إجمالي ديون القارة الإفريقية يقدر بنحو 365 مليار دولار، ثلثاها عائدان إلى الصين. ويذهب تقرير آخر إلى أن 143 مليار دولار، أي أزيد من الثلث، تم إقراضها بين 2017 و2020.
انكشفت قصة "فخ الديون" 2017، عندما انتشر تقرير يؤكد استيلاء الصين، بطريقة ذكية، على ميناء مدينة هامبانتوتا في سريلانكا، بعد تأخر حكومة الدولة في أداء ديونها، فوجدت سريلانكا نفسها مدفوعة، تحت طائلة بنود العقد، نحو خصخصة 70 في المائة من الميناء الذي تموله الصين لشركة صينية. تعمد الصين إلى الاستيلاء على المشاريع التي قامت بتمويلها، التي تكون عبارة عن موانئ أو مطارات أو بنيات تحتية استراتيجية، أو على الأقل أخذ حق الانتفاع بها لمدة طويلة، تصل أحيانا إلى 99 عاما.
واقعيا، ثمة دول عديدة سقطت في فخ التنين الصيني، فكينيا على سبيل المثال، أكبر شركاء الصين التجاريين في إفريقيا، تدين للصين بنحو 6.5 مليار دولار، ما يمثل 22 في المائة من إجمالي الديون الخارجية للدولة. يذكر أن كينيا أخذت، في 2014 قرضا بقيمة 3.8 مليار دولار، من أجل مشروع تشييد خط سكة حديدية بين العاصمة نيروبي ومدينة مومباسا الساحلية. فيما يصل إجمالي القروض الصينية للحكومة الكينية إلى 5.5 مليار دولار.
وجدت كينيا نفسها تكرر سيناريو سيرلانكا، بعدما عجزت عن سداد قيمة القرض للحكومة الصينية، بعد أن سجل خط السكة الحديدية في عامه الأول خسارة قدرها 90 مليون دولار، وأكثر من 200 مليون دولار بعد ثلاثة أعوام من انطلاقته، فقامت الحكومة الكينية برهن ميناء "مومباسا"، أكبر الموانئ في الدولة. في الشرق الإفريقي دائما، تقرض الصين جيبوتي 600 مليون دولار سنويا لتطوير البنية التحتية، مقابل التحكم بشكل كلي في ميناء "دورالية" للحاويات والبضائع، إلى جانب حصول الصين على امتياز إنشاء أول قاعدة عسكرية في الخارج.
تضم قائمة "فخ الديون" دولا آسيوية كثيرة، فباكستان أكبر الدول الحاصلة على القروض الصينية، فقد ضخت الصين استثمارات في باكستان بقيمة 62 مليار دولار، لوجود الممر "الاقتصادي الصيني الباكستاني" في المبادرة الصينية، قبل أن تستحوذ إحدى الشركات الصينية على ميناء "جوادر" الاستراتيجي لمدة 40 عاما، علاوة على امتلاك الشركة 85 في المائة من إيرادات الميناء طوال هذه المدة. صفقة قاسية علق عليها عمران خان رئيس الوزراء الباكستاني في معرض جوابه عن سؤال أحد الصحافيين، بقوله "عندما تحقق الدولة الاكتفاء الذاتي، يكون للإعلام وقتها حرية استجوابه بشأن اتخاذه قرارات معينة".
واضطرت طاجيكستان التي استمرت، منذ 2006 في الاقتراض من الصين، إلى التنازل عن أراض مساحتها 1158 كيلو مترا مربعا من جبال بامير لمصلحة الصين. ووجدت جزر المالديف نفسها مدينة بأكثر من ربع إجمالي الناتج المحلي السنوي للصين، ما دفعها إلى إجارة بكين إحدى جزرها لمدة 50 عاما. وضع وصفه الرئيس إبراهيم صلح، بمشروع "الاستيلاء على أراضي الدولة".
وكان رئيس سيراليون جوليوس مادا بيو قد رفض مقترحا صينيا ببناء مطار، بعدما ألغى مشروعا بتمويل صيني بقيمة 400 مليون دولار. ماليزيا بدورها قررت إلغاء ثلاثة مشاريع اقتصادية عملاقة، كانت بكين قد وعدت بتمويلها في الدولة، مؤكدة أن الأمر لا يتعلق بضخ أموال كثيرة، إنما بعدم قدرة ماليزيا على السداد.
تطول لائحة الدول التي انخرطت، بدرجات متفاوتة، في "دبلوماسية القروض" الصينية، فبعضها معرض لخطر ضائقة الديون، مثل قيرغيزستان ولاوس ومنغوليا والجبل الأسود وجيبوتي وجزر المالديف وباكستان وطاجيكستان.. والبعض الآخر يصارع للإفلات من الفخ الصيني، كالنمسا وفيتنام وميانمار وفانواتو، بعدما أدرك الجميع أن خطة التنين الصيني تقوم على إثقال كاهل الدول الفقيرة بالديون، بدءا برفض إعادة التفاوض بشأن الشروط، وانتهاء بالسيطرة على البنية التحتية. بذلك تكون القاعدة، كما قال أحدهم "ستطلب الصين من الدول المتعثرة عن سداد ديونها أشكالا أخرى من إعادة الدفع، مثل الموانئ والأراضي...".