بناء الدول .. بين فشل الولايات المتحدة ونجاح الأمم المتحدة
فجأة، أصبحت عبارة "بناء الأمة" بذيئة، ولا سيما في الولايات المتحدة. فقد أدت الصدمة التي خلفتها هزيمة أمريكا في أفغانستان إلى التراجع بذعر عن مفهوم طالما شكل محور التفكير الأمني الأمريكي. فبعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 التي تعرضت لها الولايات المتحدة، كان كثيرون ينظرون إلى غزو أفغانستان على أنه خطوة ضرورية لحرمان "القاعدة" من قاعدتها هناك. وبالمنطوق نفسه، أدت الهجمات أيضا إلى بذل جهود ذات نطاق أوسع من أجل تخليص العالم من الأراضي غير الخاضعة للحكم، التي يمكن أن تصبح منطلقا للإرهاب الدولي.
ومن منظور أوروبي، يقول كارل بيلدت وزير خارجية السويد من 2006 إلى 2014، رئيس الوزراء من 1991 إلى 1994، الرئيس المشارك للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية "لم تكن عبارة "بناء الأمة" المصطلح المناسب على الإطلاق. ونظرا إلى أن الدول تتخذ أشكالا عدة ومختلفة، فإن المهمة الحقيقية تكمن في بناء الدولة لضمان أن تخضع الأراضي لحكم فعال إلى حد معقول. ومن المؤكد أن هذا هو الحال في أفغانستان بعد أن أطاحت الولايات المتحدة بهيكل حكم طالبان "السيئ". وكان منع "القاعدة" أو الجماعات المتطرفة الأخرى من العودة يعتمد على إرساء هياكل حكم جديدة. وكان من المسلم به على نطاق واسع، منذ البداية، أنه لا يوجد فرق بين عمليات مكافحة الإرهاب وبناء الدولة".
وفي مذكراته، تحدث الرئيس الأمريكي السابق، جورج دبليو بوش، ببلاغة عن المصلحة الاستراتيجية للولايات المتحدة في "مساعدة الشعب الأفغاني على بناء مجتمع حر"، من أجل حرمان المتطرفين في المستقبل من امتلاك قاعدة هناك، وكذلك لتوفير "بديل" عن رؤية المتطرفين "يبعث على الأمل". ومشكلة المهمة التي تقودها الولايات المتحدة في أفغانستان لم تكن تكمن في هدفها أو طموحها، بل في تنفيذها العشوائي، وعدم التحلي بصبر استراتيجي لتنفيذها.
من جانبه، شجب الرئيس الأمريكي، جو بايدن، "الحروب الأبدية" التي تخوضها أمريكا، في محاولة منه للدفاع عن قراره بسحب جميع القوات الأمريكية من أفغانستان. لكن الحقيقة هي أن عقدين من الزمن ليسا بالمدة الطويلة، عندما يتعلق الأمر بإنشاء مؤسسات دولة شرعية وذات مصداقية. وهذه القضية - كما يشير إليها تقرير أمريكي مهم بشأن تقييم المهمة في أفغانستان - "يمكن وصفها بأنها 20 محاولة استغرقت عاما لإعادة الإعمار، بدلا من وصفها محاولة واحدة استغرقت 20 عاما". وفي النهاية، جفت الإرادة السياسية لمواصلة الجهود، وسلمت البلاد بصورة فاعلة إلى "طالبان".
ويمكن استخلاص عديد من الدروس من كارثة أفغانستان، ومن المؤكد أن النقاش سيحتدم لأعوام. لكن، يجب أن يكون واضحا بالفعل أن التخلي عن جميع الجهود لتعزيز حكم وهياكل دولة يتسمان بقدر أكبر من الاستقرار، في الأجزاء الهشة والممزقة من العالم جراء الصراعات، خطأ استراتيجي من الدرجة الأولى. وإذا تم ببساطة تجاهل المناطق غير الخاضعة للحكم، فإن المشكلات التي تسببها ستنتشر حتما إلى ما هو أبعد من حدودها، كما رأينا مرارا وتكرارا. وسيتحمل الجميع المخاطر في نهاية المطاف.
وهذا لا يعني أنه تجب مواصلة تنفيذ العمليات على طريقة أفغانستان، بل المسألة أبعد من ذلك. لكن لا ينبغي لنا أن نتجه بعزم نحو النقيض التام المتمثل في الانسحاب الكامل. ولتحقيق النجاح، يجب أن تكون عمليات بناء الدولة طويلة الأمد في آفاقها، مع قاعدة عريضة من الموارد للاستفادة منها، وأن تخضع في المقام الأول للقيادة السياسية بدلا من القيادة العسكرية. ومع تراجع حلف الناتو بصورة واضحة عن أي طموحات كانت لديه في السابق في هذا الصدد، فقد يكون الوقت مناسبا الآن لإعادة النظر في القدرات التي تمتلكها الأمم المتحدة في الاطلاع بالدور الأساسي نفسه. فقد فحصت دراسة رئيسة أجرتها مؤسسة "راند" 2005 السجل التاريخي، وخلصت إلى أن عمليات بناء الدولة التي تقودها الأمم المتحدة لها سجل إنجازات أفضل من العمليات التي تقودها الولايات المتحدة.
ومن المؤكد أن البعثات التي تقودها الأمم المتحدة تواجه أيضا تحديات كبيرة. فقد تلقت جمهورية الكونغو الديمقراطية سلسلة من بعثات الأمم المتحدة منذ أول يوم من استقلالها. ومن المرجح أن يتطلب جنوب السودان وجودا قويا للأمم المتحدة لفترة طويلة مقبلة. ولا تزال الصومال تشكل عملا جاريا، على أقل تقدير. وفي مالي، وفي جميع أنحاء منطقة الساحل الهشة، تواجه بعثات الأمم المتحدة وبعثات أخرى ظروفا أمنية متدهورة.
لكن في غياب الجهود الدولية، كانت هذه المناطق أسوأ بكثير مما هي عليه الآن. وكانت ستكون عواقب ما ترتب على ذلك من فوضى ويأس وخيمة على الأمن الإقليمي والعالمي. والإرهاب ليس سوى واحد من المشكلات التي يمكن أن تصدر من الدول الفاشلة، والمناطق غير الخاضعة للحكم. وفي الفراغ الناتج عن غياب مؤسسات الحوكمة الأساسية، غالبا ما تزدهر الجريمة الإلكترونية، وعمليات تهريب الأحياء البرية، والتعدين غير القانوني، وتجارة الأسلحة، والأنشطة الخبيثة الأخرى. ومع استمرار تفشي جائحة كوفيد - 19، يجب أن نتذكر أن مثل هذه المناطق يمكن أن تصبح أيضا بؤرا لانتشار أمراض معدية مستجدة أو جامحة.
وعلى أي حال، يجب أن تظل المساعدة على بناء الدولة - بما في ذلك الأمن والرعاية الصحية، والصرف الصحي، والتعليم - جزءا من جهودنا الجماعية للحفاظ على الاستقرار العالمي. فقد تألم كثير من الناس حول العالم جراء التجربة المريرة التي عاشتها أفغانستان. لكن التخلي عن أي طموح لمساعدة المناطق الهشة على بناء دول فاعلة سيكون تصرفا غير أخلاقي وخطير في الوقت نفسه.