صناعات عسكرية برازيلية تحرج واشنطن بحرا وتزاحمها جوا
تردد اسم البرازيل أخيرا في المحافل العالمية، لتكتسب شهرة إضافية، تفوق شهرتها في كرة القدم وزراعة البن والكاكاو، فالبرازيل التي ارتكزت على الإدارة، والحس الطبقي، والرؤية الشاملة للعلاقات السياسية والدولية، في صناعة أمجادها حديثة العهد لتنتقل من مجرد دولة فاعلة إقليميا ودوليا، اليوم على موعد مع استحقاقات صناعية على المستوى العسكري، بالتزامن مع صراعات عالمية في سباق التسلح، ليأتي الإعلان البرازيلي ضربة في مقتل للدول المعتمدة على الولايات المتحدة، خصوصا الأزمة الأخيرة، التي شهدها العالم جراء عقود الغواصات النووية لمصلحة أستراليا، لكن البرازيل لم تكن حاضرة فقط في أعماق البحار، ليبلغ حضورها حد سحب البساط من واشنطن في مجال الشحن الجوي العسكري، لتكون سوقا خصبة ومثيرة لكل الباحثين عن أسواق جديدة للتسليح، بعيدا عن الحسابات المعقدة مع الدول التقليدية في هذا المجال، خصوصا أن المنتجات البرازيلية اليوم أقل تكلفة وبجودة مناسبة وقريبة من تلك الأمريكية.
تستعد البرازيل للانضمام إلى نادي الدول الست، التي تمتلك قواتها البحرية غواصات تعمل بالطاقة النووية، حيث كان هذا الوضع قائما على حاله منذ 30 عاما مضت، لتكون البرازيل آخر من سينضم لهذا النادي، من خلال تطوير أول غواصة مزودة بمحرك يعمل بالطاقة النووية، بعد جهود استمرت عقودا، بعقول محلية في عدد من أحواض السفن حول البلاد، لتحمل الغواصة اسم ألفارو ألبرتو Álvaro Alberto، نسبة لنائب أدميرال ورائد البرنامج النووي البرازيلي، إذ ستبدأ العمل مطلع العقد الثالث من هذا القرن، وهذا الإجراء سيكون قبل أن تحصل أستراليا على غواصاتها النووية الأمريكية، التي تسببت أخيرا بأزمة دولية بين أستراليا وأمريكا وبريطانيا من طرف وفرنسا من طرف آخر، كما يعني تشغيل الغواصات النووية أنها مزودة باليورانيوم المخصب اللازم للمفاعل، وهذا يعني بشكل غير مباشر أن البرازيل الآن تمتلك تقنية وأدوات تخصيب اليورانيوم، وأنها مستقبلا قد تكون في دائرة صنع أسلحة نووية ذات طابع حربي.
تمتلك الولايات المتحدة 70 غواصة نووية، وروسيا 41 بما في ذلك الغواصة لوشاريك التي نشب فيها حريق أدى إلى مقتل 14 فردا من طاقمها، ثم الصين بقوة 19 غواصة، وبريطانيا عشر غواصات وفرنسا تسع غواصات، وأخيرا الهند تملك ثلاث غواصات نووية، وستكون البرازيل أول دولة غير نووية تمتلك غواصات نووية، كما ستعزز من طموحها القديم بأن تتحول إلى قوة بحرية كبرى تحسب لها الحسابات.
الغواصة البرازيلية ألفارو ألبرتو هي غواصة هجومية تعمل بالطاقة النووية، وهي قيد الإنشاء للبحرية البرازيلية، إذ يعد المشروع جزءا من الشراكة الاستراتيجية الموقعة بين فرنسا والبرازيل في 2009، التي تضمنت أيضا النقل الكامل للتكنولوجيا والدعم لبناء أربع غواصات موسعة تعمل بالطاقة التقليدية، لكن القواسم المشتركة بين الغواصة الجديدة وما سبقها، أن الغواصة ألفارو ألبرتو تمتلك عديدا من أوجه التشابه مع سلفها التقليدي في فئة سكوربيون، لكن الاختلافات تكمن بما تتفرد به أول غواصة نووية برازيلية على شعاع يبلغ 9.8 متر (32 قدما) لاستيعاب المفاعل النووي بالماء المضغوط PWR، وسيتم دفع طولها البالغ 100 متر (330 قدما)، وإزاحتها ستة آلاف طن بوساطة نظام دفع كهربائي بالكامل 48 ميجاواط (64 ألف حصان).
الغواصات البرازيلية التقليدية كانت مصدر دخل استراتيجي للبلاد، التي شكلت مصدر دخل خاص بها، من خلال بيع الغواصات التقليدية، خصوصا أنها كانت سوقا لبيع الغواصات طراز سكوربيون، وهي فئة من الغواصات الهجومية، التي تعمل بالديزل والكهرباء، حيث تم تطويرها بشكل مشترك من قبل خبرات فرنسية، وتحتوي هذه الفئة من الغواصات على أربعة أنواع فرعية، بما في ذلك الإصدار التقليدي للديزل والكهرباء CM-2000، ومشتق الدفع المستقل للهواء AM-2000 (AIP)، والغواصة الساحلية CA-2000 المصغرة، والغواصة S-BR الموسعة للبحرية البرازيلية، إذ تعمل الغواصات من طراز سكوربيون مع تشيلي وماليزيا والهند والبرازيل، وتم بيع أكثر من 14 غواصة من الطراز نفسه.
تعد واشنطن الرائدة في مجال الغواصات النووية، إذ بدأت قواتها البحرية العمل على غواصة بحرية تعمل بالطاقة النووية منذ يناير 1955، لتستطيع بسبب ذلك الإنجاز تغيير قواعد الحروب البحرية بشكل عام، وتمتاز الغواصات البحرية التي تعمل بالطاقة النووية بأنها أكثر سرعة، ولا تحتاج إلى الصعود إلى السطح أثناء المهمة، ويمكنها أن تستمر في العمل حتى نفاد مخزون طاقمها، كما سار عدد قليل من القوات البحرية في العالم على خطى الولايات المتحدة في عصر الغواصات النووية.
من جهة أخرى، البرازيل لم تبرع فقط في مسألة الغواصات النووية فحسب، بل وصلت لمرحلة متقدمة حتى باتت تزاحم كبريات شركات الطيران العالمية، ومنها: بوينج، وإيرباص، ولوكهيد مارتين، خصوصا تلك المنتجة لطائرات الشحن العسكرية، إذ تتسابق الوفود، التي تمثل وزارات الدفاع الأوروبية وغيرها على السفر إلى منطقة ساو جوزيه دوس كامبوس، في ساو باولو البرازيلية: مقر شركة إمبرير Embraer، التي نجحت خلال الأعوام السبعة الماضية في تثبيت أقدامها كواحدة من شركات إنتاج الطائرات المنافسة في العالم.
ويكمن السبب في تقاطر هذه الوفود تحديدا هو طائرة "إمبرير" الجديدة: الناقلة المتوسطة KC-390 Millennium، التي تشكل منافسا قويا لمتصدر السوق التقليدية الأمريكية "لوكهيد مارتين"، بطائرتيه "هيركوليس" و"سوبر هيركوليس" (C-130H/ C-130J تباعا)، لتبدأ هذه الطائرة بكتابة سيناريو موت بطيء للطائرة الأمريكية، التي تتفوق عليها في كثير من الجوانب.
سلمت "إمبرير" أول طائرة من هذا النوع للقوات الجوية البرازيلية في 2019، وهو تاريخ حديث نسبيا بتعاون إقليمي مع شركات في الأرجنتين وتشيلي والبرتغال، لكن حتى اللحظة سلمت الشركة لهنغاريا طائرات KC-390 بقدرات تموين جوي، وهناك مشاورات مستمرة مع وزارة الدفاع الهولندية لاستبدال أسطول طائرات هيركوليس لديها، الذي وصل عمر بعض طائراته إلى 30 عاما.
كذلك أعلنت "إمبرير" أخيرا، نجاح تجارب هبوط وإقلاع الطائرة من مدرج ترابي قصير، ما يعني مرونة أعلى في إيصال الأحمال والأفراد لأي موقع من مواقع الصراع حول العالم، وتمتاز "إمبرير" عموما في مجال الناقلات متوسطة الحجم، إذ يمكن إعادة تصميمها بسهولة لخدمة أهداف عدة: نقل المعدات والقوات، الإنزال الجوي، تموين الطائرات في الجو أو عمليات الإنقاذ، ما يعني إمكانية خدمتها لعدة أهداف في الوقت ذاته لدى الدولة المشترية.
مقارنة بطائرة السوبر هيركوليس (C-130J)، فإن طائرة KC-390: أسرع في الجو (870 كيلومترا في الساعة مقابل 657 كيلومترا في الساعة)، ارتفاعها الأقصى أعلى (10970 مترا مقابل 8839 مترا)، حمولتها القصوى أكبر (26 طنا مقابل 21 طنا)، مداها الأقصى بحمولة متوسطة أبعد (5056 كيلومترا مقابل 4074 كيلومترا) بهذه المواصفات، ومرة أخرى مقارنة بالمنافس الأقرب "سوبر هيركوليس"، فإن الطائرة البرازيلية تستطيع نقل إجمالي 500 طن من المعدات ونحو ألف شخص عسكريا كان أو مدنيا، عبر مسافة تبلغ 2500 كيلومتر في يومين فقط.
وبحسب خبراء الدفاع والطيران، فإن هذه الطائرة تعد الأمثل بالنسبة للقوات الخاصة أو للجيوش متوسطة الأعداد. ولكن في زمن قلت فيه الحروب التقليدية بشكل كبير، فإن طائرة مثل KC-390 ستكون مجدية أكثر في الصراعات الموضعية أو لنقل كمية محدودة من المعدات المهمة إلى مناطق استراتيجية، بغض النظر عن طوبوغرافيتها، وعلى الرغم من غياب الطائرة البرازيلية عن إجراءات الإجلاء في مطار كابول عقب سيطرة حركة طالبان أخيرا، إلا أن الطائرة تشبه إلى حد كبير طائرة الشحن العملاقة الأمريكية C-17، التي اشتهرت بمقطع سقوط هاربين أفغان تعلقوا على بدنها الخارجي أملا بالنجاة.