الانتخابات الألمانية .. رحلة البحث عن خلف ميركل

الانتخابات الألمانية .. رحلة البحث عن خلف ميركل
لعبت قضايا العدالة الاجتماعية فضلا عن الاقتصاد والعمل دورا مهما في توجيه الناخبين.

جاءت نتائج الانتخابات في ألمانيا، بما لا تشتهيه المستشار أنجيلا ميركل، التي تستعد إلى مغادرة المشهد السياسي الألماني. فقدت منحت صناديق الاقتراع تقدما طفيفا لمصلحة الحزب الاشتراكي الديمقراطي (25.7 في المائة) أمام الائتلاف الحاكم (24.1 في المائة)، تحالف الحزب المسيحي الديمقراطي والحزب المسيحي الاجتماعي البافاري، الذي قادت تحت مظلته المستشارة جمهورية ألمانيا الاتحادية، على مدار 16عاما.
يبدو أن التاريخ يعيد نفسه بالنسبة إلى الأحزاب السياسية في ألمانيا، فقبل صعود نجم أنجيلا ميركل، كان المستشار هيلموت كول قد قضى 16 عاما في الحكم (1982 - 1998)، باسم حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي. وخسر بعدها الانتخابات أمام الحزب الاشتراكي الديمقراطي، بزعامة غيرهارد شرودر (1998 - 2005)، صاحب الولاية الوحيدة الفاصلة بين ثلاثة عقود من حكم الحزب الديمقراطي المسيحي، بعدما خسر بفارق ضئيل، 34.2 في المائة لمصلحة الاشتراكيين، مقابل 35.1 في المائة لمصلحة الديمقراطيين.
حقق حزب الخضر بدوره نتيجة تاريخية في هذه الانتخابات، باحتلاله المركز الثالث في ترتيب حضور الأحزاب داخل البوندستاغ، 14.8 في المائة من إجمالي الأصوات. ويجد انتعاش الخضر، في وقت تشهد شعبية الخضر في أرجاء أوروبا انحسارا نسبيا، تفسيرا له في موجة الفيضانات غير المسبوقة في ألمانيا، خلال الفترة الأخيرة، ما أسهم في عودة اهتمام الناخبين بقضايا المناخ وحماية البيئة.
علاوة على مسألة البيئة والمناخ، لعبت قضايا العدالة الاجتماعية فضلا عن الاقتصاد والعمل، دورا مهما في توجيه الناخبين الألمان، حسب أولوية كل حزب على حده. فعلى سبيل المثال، شكل الاقتصاد الأولوية بالنسبة إلى ناخبي الاتحاد المسيحي، في المقابل لا تحظى مسألة البيئة والمناخ بكثير من الأهمية لديهم. أما مؤيدو الحزب الاشتراكي الديمقراطي، فقد صوتوا له بشكل أساس، بسبب قضية العدالة الاجتماعية، بينما انصب اهتمام أنصار حزب البديل من أجل ألمانيا، بشكل خاص على قضية الهجرة والأجانب.
يرتكز اهتمام المراقبين على خليفة أنجيلا ميركل، أكثر من اهتمامهم بسيناريوهات الائتلاف الحكومي المقبل، الذي يتوقع أن يطول انتظاره. فخروج أقوى امرأة في العالم، حسب توصيف نشرة "فوربس"، من المشهد السياسي الألماني بوجه خاص، ثم الأوروبي والعالمي بشكل عام، من شأنه أن يترك فراغا كبيرا، يمثل وحده تحديا بالنسبة إلى من سيخلفها. فلن يكون يسيرا على المستشار المقبل اقتفاء أثر ميركل، في ضبط التوازن بين التعاون والهيمنة أوروبيا، وبين الاصطفاف الدولي والحفاظ على الاستقلالية.
استطاعت السيدة المحافظة التي نشأت في ألمانيا الشرقية، أن تجسد، منذ وصولها في 2005 إلى منصب المستشارية، صفات الاعتدال والثبات والواقعية البراغماتية. ونجحت في اجتياز عديد من التحديات الداخلية والخارجية، خلال المرحلة التي تولت فيها قيادة البلد. وسيحفظ لها التاريخ مواقف "إنسانية" استثنائية، حين خالفت بنود اتفاقية دبلن، التي تنص على أن اللاجئ يقدم أوراقه في أول بلد آمن يصل إليه، وانتهجت سياسية الحدود المفتوحة التي تسمح للمهاجرين بتقديم طلب الحصول على اللجوء في ألمانيا، بغض النظر عن دولة الاتحاد الأوروبي التي وصلوا إليها أولا.
ونجحت عاشقة موسيقى فاغنر في كسب معركة خط أنابيب "نورد ستريم 2"، وهو خط إمداد بالغاز الطبيعي، يمتد من الحقول الروسية إلى الساحل الألماني الذي يمر تحت بحر البلطيق، رغم اتساع الجبهة الغربية المعارضة للمشروع، بدءا بدول الاتحاد الأوروبي وانتهاء بالولايات المتحدة. فالجميع يخشى أن يمنح ذلك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سوقا أوسع، ونفوذا جيوسياسيا أكبر.
تغادر أنجيلا ميركل هذه المرة فعليا، حيث شاع أنها لم تكن تنوي الترشح لولاية رابعة، في 2016، لكنها تراجعت بعد عشاء جمعها بالرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما. وتذهب الأقاويل إلى أن أوباما هو من "ناشد ميركل خوض الانتخابات مرة أخرى، حتى يتمكن شخص ما، يقصد أنجيلا ميركل، من توحيد الغرب والعالم".
وتترك وراءها ألمانيا أخرى، غير تلك التي حكمتها في البداية، فجائحة كورونا ألحقت أضرارا كبيرة بالاقتصاد الألماني. وانتعش اليمين المتطرف، ممثلا في حزب "البديل من أجل ألمانيا"، لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، حيث جاء في المركز الخامس بحصوله على 83 مقعدا في الانتخابات. ويبقى التحدي الأكبر هو مستقبل الاتحاد الأوروبي، ودور ألمانيا فيه، ولا سيما في ضوء الحاجة إلى تعزيز التعاون داخل الاتحاد الأوروبي، وسط تزايد المشاعر المناهضة لفكرة الوحدة الأوروبية داخل عدد من الدول الأعضاء.
يرتبط ذكر الزعماء السياسيين الألمان بالحزب الديمقراطي المسيحي، أنجيلا ميركل وهيلموت كول... وآخرين، بيد أن الحزب الاشتراكي الديمقراطي، متصدر هذا الاقتراع، يحتفظ بشخصية الزعيم فيلي برانت الخصم العنيد للنازية، الذي أسهم من موقعه كمستشار لجمهورية ألمانيا الاتحادية "ألمانيا الغربية"، ما بين عامي 1969 و1974، في تعبيد الطريق أمام توحيد الألمانيتين.
حرص الرجل على خفض منسوب التوتر وتخفيف حدة الخلاف مع دول أوروبا الشرقية، وحاول جبر الضرر المعنوي لدول ضحايا ألمانيا النازية. فأقدم على زيارة بولندا، حيث ركع أمام النصب التذكاري لضحايا الهولوكوست بالعاصمة وارسو. وفي ربيع 1970، قام بزيارة تاريخية إلى جمهورية ألمانيا الديمقراطية (الشرقية)، ليكسر حاجز المحرمات في العلاقات بين البلدين. ونال نظير جهوده من أجل إشاعة السلم، جائزة نوبل للسلام في 1971.
قد ينجح زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي، بحكم خبرته كوزير للمالية، في مواجهة الأزمات الداخلية للبلد "الإصلاح الاقتصادي، مواجهة البطالة، قضايا الهجرة..."، لكن الاشتغال على الجبهتين القارية والعالمية، بحاجة إلى براديغم آخر، قلما جادت به الأحزاب الاشتراكية في العالم، فهل يصنع الألمان المعجزات مجددا، بشخصية اشتراكية من طينة " فيلي برانت"؟

الأكثر قراءة