إعادة ضبط بوصلة التحالفات السياسية

إعادة ضبط بوصلة التحالفات السياسية
المشهد من وجهة نظر أمريكية، الوجود البري لم يعد مجديا.

أدى اعتلاء الرئيس الأمريكي جو بايدن سدة الحكم في الولايات المتحدة إلى تحولات متسارعة في بنية العلاقات الدولية، خصوصا بعد الانسحاب العسكري من أفغانستان بالصورة التي أقلقت كل حلفاء واشنطن، ما تسبب بتفاقم الصراع بين الولايات المتحدة وكل من الصين وروسيا وانعكاساته وتأثيراته في الشرق الأوسط. تبدل الموقف الأمريكي لم يقتصر على الحلفاء الأقل تأثيرا لأمريكا، وإنما جاء على أقرب المقربين، ما استدعى ضرورة التغيير، فالأوضاع غاية في الغرابة حيث تبدلت تحالفات واختلت روابط وغلبت المصالح، ليصبح هنالك شاغر فارغ لتسيد المنطقة أو لأخذ حصة منها.
ترجع أسباب أي تغيير إلى جانب أي طارئ يحصل في المنطقة إلى السياسات الإيرانية الخارجية، ما استدعى البحث عن حلول وبدائل في حال مغادرة واشنطن كما حدث في أفغانستان، وتهدف التحالفات الجديدة، إلى إعادة ضبط أنظمة التحالف، والتحالفات غير الرسمية في المنطقة الأكثر سخونة في العالم، وذلك بالتزامن مع قيام منافسين سابقين بإعادة تشكيل الشراكات لتحقيق مزايا اقتصادية جديدة، ومواجهة التهديدات الأمنية الناشئة والمتجددة، التي تسببت بها طموحات المشاريع العسكرية ذات الطابع غير التقليدي كالبرنامج النووي الإيراني.
المشهد من وجهة نظر أمريكية، أن الوجود البري لم يعد مجديا لها، ليقتصر دورها على الردع وضبط الصراعات، لذلك تستغني الولايات المتحدة عن الوجود الأرضي، لتترك البر، وتقلل من خسائرها البشرية والمادية في أماكن الصراعات، وتترك حروب البر الإقليمي وتوازناتها لموازين القوى وتوازنات الصراع، فلطالما خسرت الولايات المتحدة حروبها البرية الصغيرة من فيتنام إلى الصومال إلى سورية وأفغانستان، لا لسبب إلا لكونها تشتيتا لقدراتها وتركيزها على الصراع المركزي الرئيس للهيمنة على المياه الزرقاء.
هذه الأفعال، وإن نفيت بتصريحات عالية المستوى أمريكيا، التي كان آخرها تصريحات أوستن لويد وزير الدفاع الأمريكي في المنامة، بتجديد التزام بلاده نحو المنطقة، تحديدا في وجه المطامع الإيرانية، لكن السياسات الإيرانية، وتحديدا العدائية ذات الطابع التوسعي، كانت سباقة بدفع كيانات سياسية لاتخاذ تدابير واحتياطات دفعتها إلى تشكيل بدايات منظومات إقليمية ودولية جديدة مبكرا، أساسها قيم الجوار العربية والإسلامية، والمصالح الجوهرية المشتركة، ولعل التحالف العربي في اليمن بقيادة السعودية، أبرز هذه التحالفات لصد مخاطر نظام ولاية الفقيه الإيراني، كما أنه نواة عروبية حاضنة وجامعة.
يعد التحالف العربي حجر الزاوية في مواجهة مشاريع الهيمنة والاستحواذ المحمومة، التي تستهدف النيل من حاضر ومستقبل المنطقة، والهدف منه مواجهة المشروع الخارجي، الذي يتخذ أبعادا شمولية وحضارية، تتجاوز الدلالات الفرعية للصراع في اليمن، الذي جاء كاستجابة إلى مخاض عروبي طويل، تزامن مع صرخة استغاثة أطلقتها الشرعية الوطنية والشعبية في اليمن، ولمواجهة التمادي في مواجهة تطويق المشرق العربي وإحالته إلى صيرورة من الدم المراق.
جاء التحالف العربي ليكون تعبيرا عن احتياج وطني وقومي، وهذا يدفع إلى مطالبته بالمضي في طريقه وأجندته، الهادفة إلى تقويض أعداء الأمة أولا، وتمكين الأوطان في مواجهة المخاطر ثانيا، وهي مهمة يتطلبها المستقبل كما يلح بها الحاضر.
إلى ذلك، تسعى تركيا المهددة بانهيار اقتصادي إلى تعظيم دورها، من خلال عقد قمة التعاون الثامنة للدول الناطقة بالتركية في إسطنبول أخيرا، الذي أشعل الأضواء في عديد من العواصم غربا وشرقا، فالعلاقات بين الدول لا تحكمها العقائد والإيديولوجيات، بل المصالح، فالتكتل الإقليمي تحول إلى "منظمة الدول التركية"، ويضم إضافة إلى أنقرة كل من، كازاخستان وأوزبكستان وقرقيزستان وأذربيجان.
ويتطلع التحالف إلى رفع درجة التنسيق وبناء شراكات اقتصادية وتأسيس بنك للتنمية، إضافة إلى التعاون في المجال العسكري، إذ تضم مجموعة الدول التركية الرئيسة نحو 250 مليون إنسان، يصل إجمالي دخلها القومي إلى أكثر من تريليوني دولار، وهي منطقة ثروات طبيعية وطاقة ضخمة، يصل حجم الغاز الطبيعي فيها نحو 34 في المائة، ومن النفط نحو 27 في المائة من الاحتياط العالمي، إلى جانب مناجم الفحم والحديد والغابات.
كما أنها تحاول استغلال موقعها الاستراتيجي بوقوعها على تقاطع أوروآسيوي، فمن أراضيها ستمر خطوط نقل الطاقة والتجارة الدولية، الأمر الذي يجعلها منطقة اشتباك وصراع لعدد من الدول أولها الصين، التي تعدها أساسية في مشروع الطريق والحزام، كما أن روسيا تتعامل مع هذه المنطقة، التي كانت في إطار منظومة الاتحاد السوفياتي، باعتبارها صلب مشروعها الأوراسي الاستراتيجي، وهناك المنظومة الأوروبية والأمريكية، التي ترى في هذه المنطقة ميدانا لتعزيز مصالحها واستثماراتها في المجالات المتعددة وليس أقلها مواجهة النفوذ الصيني والروسي.
كما نقف اليوم أمام مشهد سياسي جديد في أمريكا حيال إسرائيل، فمن المؤكد أن الوضع قد اختلف، صحيح أن إسرائيل كانت تحظى بتأييد قوي من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وفي حين لا تزال تتمتع بدعم قوي من الجمهوريين، لكن ثمة انشقاقات واضحة في الحزب الديمقراطي، إذ يوجه التقدميون في الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة انتقادات كثيرة لإسرائيل، حيث إن بعضهم من أمثال رشيدة طليب وإلهان عمر يشككان على ما يبدو بحقها بالدفاع عن نفسها - كما تروج لنفسها -، لتنشط التحركات الدبلوماسية والمباحثات السياسية، حتى بين أكثر الأطراف خصومة في المنطقة، لتذهب إسرائيل إلى الحاضنة الجغرافية في المنطقة، من خلال معاهدات أبراهام، التي أطلقها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب.
لم تعد إسرائيل قضية يجمع عليها في الحزبين الديمقراطي والجمهوري كما في الماضي، ومن غير المرجح أن يتراجع ميل أمريكا الواسع نحو تقليص وجودها في الشرق الأوسط في أي وقت قريب، كما أن إسرائيل لم تعد قضية يجمع عليها في الحزبين كما في الماضي، وهذه الحالة نتيجة لسياسات ترمب الذي حاول جعل إسرائيل مسألة سياسية مثيرة للانقسام أمريكيا، من خلال احتضانه لإسرائيل، الذي تسبب بنفور الديمقراطيين في البلاد تقريبا الذين كانوا يميلون إلى معارضة كل ما يؤيده.

الأكثر قراءة