كيف يصبح مشروع السلام في أوروبا عالميا؟
مع اقترابنا من نهاية 2021، يناقش الاتحاد الأوروبي خياراته وأولوياته في عالم متزايد الخطورة. لقد نجحت أوروبا منذ 1945 في تحقيق "مشروعها للسلام"، الأمر الذي جعل الحرب بين الخصوم القاريين القدامى أمرا لا يمكن تصوره، ويمكن القول إنه نجح في التوصل إلى "السلام الدائم" داخل أراضي الاتحاد، حسب مفهوم الفيلسوف كانط.
علاوة على ذلك، وعلى الرغم من أن عديدا من المحللين يعزون انهيار الشيوعية في الفترة ما بين 1989 و1991، إلى عدم قدرة الاتحاد السوفياتي على مواصلة سباق التسلح مع الولايات المتحدة، إلا أن نجاح اقتصاد السوق الاجتماعي في أوروبا الغربية كان سببا رئيسا لفشل الكتلة السوفياتية. ولم يكن هذا أكثر وضوحا مما كان عليه في المنافسة بين ألمانيا الغربية والشرقية، بحسب كمال درويش؛ وزير سابق للشؤون الاقتصادية في تركيا، ومسؤول عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وزميل أول في معهد بروكينجز.
والأهم من ذلك أن ألمانيا الغربية - وأوروبا الغربية عموما - أثبتتا أنه كان من الممكن تحقيق ديمقراطية ليبرالية، واقتصاد السوق المتنامي، وسياسات تعمل على إعادة توزيع الدخل وتوفير الحماية الاجتماعية الشاملة بشكل فعال. فقد أدى نجاح نموذج السلام واقتصاد السوق الاجتماعي في أوروبا الغربية، بقدر ضعف النظام السوفياتي، إلى الهزيمة الأيديولوجية للشيوعية وانهيارها في نهاية المطاف.
واليوم، في ظل التحديات الهائلة التي يواجهها العالم، هناك "مهمتان" عالميتان يمكن لأوروبا أن تتبناهما، تمشيا مع تاريخها بعد الحرب، كمشروع لضمان السلام الإقليمي. يضيف درويش. تتعلق المهمة الأولى بأزمة تغير المناخ. صحيح أن مؤتمر الأمم المتحدة الأخير المعني بتغير المناخ "كوب 26" الذي عقد في جلاسكو أنتج تعهدات جديدة ملحوظة من قبل الدول وتحالفات الجهات الفاعلة الخاصة. ومع ذلك، نظرا إلى النتائج التي توصل إليها تقرير التقييم السادس للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، يجب التركيز على جهود التخفيف الطموحة الرامية إلى الحد من آثار تغير المناخ في هذا العقد. يشكل المسار الفعلي نحو عالم خال من الكربون أهمية حاسمة، بدلا من التعهدات المتعلقة بمنتصف القرن.
إن الحفاظ على الاحترار العالمي قريبا من هدف 1.5 درجة مئوية، على النحو المنصوص عليه في اتفاقية باريس للمناخ لـ2015، سيعتمد على الولايات المتحدة والصين والاقتصادات الناشئة والنامية أكثر بكثير من اعتماده على أوروبا، التي تمثل أقل من 8 في المائة من انبعاثات الغازات المسببة للانحباس الحراري العالمي. وعلى الرغم من التعهدات التي تم الالتزام بها في جلاسكو والتقدم الملحوظ الذي تم إحرازه في التكنولوجيات الخضراء، يعد الفوز في سباق الحفاظ على درجة حرارة العالم عند 1.5 درجة مئوية أمرا صعب المنال.
وفي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، تلتزم إدارة الرئيس جو بايدن بجهود لتخفيف انبعاثات الكربون، لكنها تواجه معارضة شديدة. إذا فاز الحزب الجمهوري في انتخابات التجديد النصفي لـ2022 والانتخابات الرئاسية لـ2024، فلن تكون سياسات المناخ الأمريكية كافية للوفاء بالتزامات مؤتمر قمة "كوب 26"، حتى لو أخذ بعض المحافظين أخيرا مخاطر المناخ على محمل الجد.
تمثل الصين عقبة أخرى. إن تعهدها الحالي بشأن بلوغ ذروة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بحلول 2030 لا يتوافق مع الحاجة إلى التخفيف من آثار تغير المناخ. وما لم تسارع الصين إلى الحد من انبعاثاتها الكربونية، فإننا لن نتمكن من الفوز في سباق المناخ. ومما يزيد الطين بلة أن القوتين العظميين قد تبنيان إجراءاتهما المناخية على ما تفعله القوة الأخرى.
وأخيرا، توجد الاقتصادات الناشئة والنامية، حيث ستكون هناك حاجة إلى قدر كبير من الاستثمار المناخي الجديد. تعتمد قدرة هذه الدول على المساهمة في وضع مسار عالمي متقدم لتخفيف آثار تغير المناخ في المساعدة المالية المقدمة من الاقتصادات المتقدمة. ووعدت الدول الغنية بتقديم مثل هذه المساعدات في جلاسكو، لكن إخفاقاتها السابقة في الوفاء بتعهدات مماثلة لا تبعث على الثقة.
هناك احتمال معقول أن يسمح مزيج من التقدم السريع في مجال التكنولوجيا الخضراء، والتطورات السياسية المواتية في الولايات المتحدة والصين، والمساعدة المالية للأسواق الناشئة بتكثيف جهود التخفيف التي يحتاج إليها الكوكب. لكن هناك أيضا احتمالا كبيرا بأن تتحول فترة العشرينيات من القرن الـ21 إلى عقد من "الحرب الدائمة" بشأن قضايا المناخ، التي تتسم بالتراجع وحالات التأخير ومزيد من الوعود الكاذبة.
ومع ذلك، يمكن أن يكون لأوروبا تأثير إيجابي في السياسات المناخية الأمريكية والصينية، ولا سيما من خلال آلية تعديل حدود الكربون المنفذة بعناية، التي تفرض ضريبة على الواردات التي تستهلك الكربون بكثافة إلى الاتحاد الأوروبي. ومن الممكن أن يكون لها تأثير أكثر حسما في تعبئة الموارد المطلوبة للأسواق الناشئة من خلال دعم الزيادات في رأس المال للبنوك الإنمائية المتعددة الأطراف التي تمتلك فيها الدول الأوروبية مساهمات ضخمة.
أما المجال الثاني، حيث قد تؤدي الظروف إلى حرب دائمة - وبالتالي تدعو إلى "مهمة سلام" أوروبية - فيتلخص في التكنولوجيات ذات الاستخدام المزدوج مثل الحوسبة الكمية والذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية. وعلى الرغم من أن هذه الابتكارات تتيح للبشرية فرصا هائلة لعيش حياة أطول ورفاهية أكبر، إلا أنها تنطوي أيضا على مخاطر وجودية مماثلة لتلك التي تفرضها الأسلحة النووية وتغير المناخ.
ومن الصعب رسم الخط الفاصل بين الاستخدام السلمي لهذه التقنيات ونشرها لضمان التفوق الاستراتيجي على المنافسين. إن التنافس التكنولوجي العدواني بين الصين والولايات المتحدة يميل بالفعل نحو صراع دائم، حيث من شأن سماح أحد الطرفين بتقدم الطرف الآخر أن يمكنه من السيطرة على العالم.
إن ما يجعل هذا الخطر أكبر من سباق التسلح النووي في الماضي هو أن تسليح التقنيات المدنية الحالية قد لا يتطلب موارد إضافية كبيرة. فقد نجحت البحوث الطبية المدنية، على سبيل المثال، في جعل العالم يقترب بشكل مخيف من القدرة على إنتاج فيروسات اصطناعية يمكن تحويلها إلى أسلحة دمار شامل. ومن المحتمل أن تظهر سيناريوهات مماثلة في تطوير الذكاء الاصطناعي. والأمر الأكثر إثارة للقلق والفزع، في كلتا الحالتين، هو احتمال وقوع حوادث غير مقصودة أو إمكانية اكتساب الجهات الإرهابية غير التابعة للدول القدرة على تسليح الابتكارات.
بوسع أوروبا أن تتولى القيادة في هذا المجال، كما فعلت في مجال المناخ. وعلى وجه الخصوص، يتعين عليها أن تحذر باستمرار من هذه المخاطر، وأن تساعد على تصميم قواعد ومعاهدات جديدة تشبه معاهدات الحد من انتشار الأسلحة النووية التي ساعدت سابقا على حماية العالم من حرب نووية مدمرة. يمكنها القيام بذلك في حين تعمل على حماية القيم الديمقراطية الليبرالية الأساسية ضد إساءة استخدام هذه التكنولوجيات، ليس فقط من قبل الدول، لكن أيضا من قبل الشركات الخاصة العملاقة.
لذلك، فيما يتعلق بتغير المناخ والتكنولوجيات الجديدة ذات الاستخدام المزدوج، يجب أن يصبح مشروع السلام الأساسي في أوروبا عالميا. تتمتع أوروبا بقدرات بشرية وعلمية هائلة، وأدى الدمار الذي حدث في حربين عالميتين إلى تجريدها من الرغبة في الهيمنة على الدول الأخرى، وهذا يسهل على الاتحاد الأوروبي العمل كوسيط سلام، بينما يجب على أوروبا أن تواصل بكل تأكيد تحسين رفاهية مواطنيها، فإن تبني المهمات العالمية، مثل تلك الموصوفة هنا من شأنه أن يوفر حافزا جديدا لهذه الأجيال والأجيال القادمة من الأوروبيين.