تنافس بكين وواشنطن .. مباراة شطرنج ثلاثية الأبعاد

تنافس بكين وواشنطن .. مباراة شطرنج ثلاثية الأبعاد
لم يعد التقدم التكنولوجي الصيني يعتمد فقط على التقليد.

تتنافس الولايات المتحدة والصين على الهيمنة في مجال التكنولوجيا. كانت أمريكا لفترة طويلة في صدارة تطوير التكنولوجيات "الحيوية، والنانو، والمعلومات"، التي تشكل ضرورة أساسية للنمو الاقتصادي في القرن الـ21. علاوة على ذلك، تهيمن الجامعات البحثية الأمريكية على التعليم العالي على مستوى العالم. في التصنيف الأكاديمي السنوي لجامعات العالم الذي تصدره جامعة شنغهاي جياو تونج، تقع 16 من أفضل 20 مؤسسة تعليمية في الولايات المتحدة، ولا يوجد أي منها في الصين.
لكن الصين تستثمر بكثافة في البحث والتطوير، بحسب جوزيف س. ناي الابن أستاذ في جامعة هارفارد ومؤلف كتاب "هل الأخلاق مهمة؟ وهي تتنافس بالفعل مع الولايات المتحدة في مجالات رئيسة، خاصة الذكاء الاصطناعي، حيث تطمح لأن تكون صاحبة الريادة العالمية بحلول 2030. ويعتقد بعض الخبراء أن الصين في وضع يسمح لها بتحقيق هذه الغاية، نظرا إلى موارد البيانات الهائلة، وغياب أي قيود تتعلق بالخصوصية على كيفية استخدام هذه البيانات، وحقيقة مفادها أن التقدم في مجال التعلم الآلي يتطلب مهندسين مدربين أكثر من العلماء المتميزين. ونظرا إلى أهمية التعلم الآلي باعتباره تكنولوجيا تخدم أغراضا عامة وتؤثر في عديد من المجالات الأخرى، فإن مكاسب الصين في الذكاء الاصطناعي تتسم بالأهمية بشكل خاص.
علاوة على ذلك، لم يعد التقدم التكنولوجي الصيني يعتمد فقط على التقليد. عاقبت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب الصين بسبب سرقاتها الإلكترونية للملكية الفكرية، ونقل الملكية الفكرية قسرا، والممارسات التجارية غير العادلة. وفي إصرارها على المعاملة بالمثل، زعمت الولايات المتحدة أنه ما دام بوسع الصين أن تحظر "جوجل" و"فيسبوك" من سوقها لأسباب أمنية، فإن الولايات المتحدة قادرة على اتخاذ خطوات مماثلة ضد شركات صينية مثل هواوي وZTE. لكن الصين لا تزال تبتكر.
بعد الأزمة المالية العالمية التي اندلعت 2008 وما تلاها من ركود عظيم، أصبح قادة الصين يعتقدون على نحو متزايد أن أمريكا كانت في انحطاط. وبعد تخليها عن سياسة دنج شياو بينج المعتدلة المتمثلة في الابتعاد عن الأضواء وانتظار الوقت المناسب، تبنت الصين نهجا أكثر عدوانية وحزما تضمن بناء "وعسكرة" جزر اصطناعية في بحر الصين الجنوبي، وقهر أستراليا اقتصاديا، وإلغاء ضماناتها فيما يتصل بهونج كونج. وفي الرد على هذا، بدأ بعض الناس في الولايات المتحدة يتحدثون عن الحاجة إلى "انفصال" عام. لكن على الرغم من أهمية جعل سلاسل التوريد التكنولوجية التي ترتبط بشكل مباشر بالأمن القومي مفتوحة، فمن الخطأ الاعتقاد بأن الولايات المتحدة قادرة على فصل اقتصادها تماما عن الصين دون أن تتكبد تكاليف باهظة.
هذه الاتكالية المتبادلة الاقتصادية العميقة هي التي تجعل علاقة الولايات المتحدة بالصين مختلفة عن علاقتها بالاتحاد السوفياتي أثناء الحرب الباردة. فمع السوفيات، كانت الولايات المتحدة تلعب مباراة شطرنج أحادية البعد، حيث كان الجانبان متشابكين بشدة في المجال العسكري، لكن ليس في العلاقات الاقتصادية أو عبر الوطنية.
أما مع الصين، فتلعب الولايات المتحدة مباراة شطرنج ثلاثية الأبعاد بتوزيعات مختلفة تماما للقوة على المستويات العسكرية، والاقتصادية، وعبر الوطنية. وإذا تجاهلنا علاقات القوة على الجانبين الاقتصادي وعبر الوطني، علاوة على التفاعلات الرأسية بين الجانبين، فسنعاني. ولهذا، ينبغي لأي استراتيجية جيدة في التعامل مع الصين أن تتجنب الحتمية العسكرية، وأن تشمل الأبعاد الثلاثة للاتكالية المتبادلة.
من الأهمية بمكان مراجعة وتنقيح القواعد التي تحكم العلاقات الاقتصادية. فقبل اندلاع الجائحة بفترة طويلة، كانت رأسمالية الدولة الهجين في الصين تتبع نموذجا تجاري النزعة يستهدف الربح، الذي شوه أداء منظمة التجارة العالمية وأسهم في صعود الشعبوية الهدامة في الديمقراطيات الغربية.
اليوم، أصبح حلفاء أمريكا أكثر إدراكا للمخاطر الأمنية والسياسية التي ينطوي عليها التجسس الصيني، وعمليات نقل التكنولوجيا القسرية، والتفاعلات التجارية الاستراتيجية، والاتفاقيات غير المتكافئة. وستكون النتيجة مزيدا من انفصال سلاسل التوريد التكنولوجية، خاصة عندما يكون الأمن الوطني على المحك. من الممكن أن يساعد التفاوض على قواعد تجارية جديدة على منع تصاعد هذا الانفصال. على هذه الخلفية، يصبح بوسع القوى المتوسطة أن تتوحد في إنشاء اتفاقية تجارية لإدارة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات على أن تكون مفتوحة للدول التي تلبي معايير الديمقراطية الأساسية.
لا يوجد مقاس واحد يناسب الجميع. في مجالات مثل منع الانتشار النووي، وحفظ السلام، والصحة العامة، وتغير المناخ، تستطيع الولايات المتحدة أن تجد أرضية مؤسسية مشتركة مع الصين. لكن في مجالات أخرى، من المنطقي أن نضع معاييرنا الديمقراطية الخاصة. ومن الممكن أن يظل الباب مفتوحا للصين في الأمد البعيد، لكن يجب أن نقبل بأن الطريق قد يكون طويلا للغاية حقا.
على الرغم من تنامي قوة الصين ونفوذها، فإن العمل مع الشركاء المشابهين لنا في الفكر من شأنه أن يعمل على تحسين احتمالات سيادة المعايير الليبرالية.. يضيف ناي الابن، في مجالات التجارة والتكنولوجيا. ومن الأهمية بمكان إنشاء إجماع أقوى عبر ضفتي الأطلسي بشأن الحوكمة العالمية. لكن فقط من خلال التعاون مع اليابان، وكوريا الجنوبية، وغيرهما من الاقتصادات الآسيوية يصبح بمقدور الغرب تشكيل وصياغة قواعد التجارة والاستثمار العالمية في مجالات التكنولوجيا، وبالتالي ضمان تكافؤ الفرص أمام الشركات العاملة في الخارج.
الواقع أن اقتصادات الدول الديمقراطية مجتمعة ستتجاوز اقتصاد الصين هذا القرن، لكن هذا لن يحدث إلا إذا وحدت قواها. وسيكون هذا العامل الدبلوماسي أكثر أهمية من مسألة تطور الصين تكنولوجيا. في تقييم مستقبل توازن القوى بين الولايات المتحدة والصين، تشكل التكنولوجيا عنصرا مهما، لكن أهمية التحالفات أكبر.
أخيرا، ستعتمد استجابة الولايات المتحدة الناجحة للتحدي التكنولوجي الذي تفرضه الصين على إدخال التحسينات في الداخل بقدر ما تعتمد على تصرفاتها في الخارج. ومن الأهمية بمكان أيضا زيادة الدعم للبحث والتطوير. إن الرضا عن الذات يشكل خطرا في كل الأحوال، لكن هذه أيضا حال انعدام الثقة أو المبالغة في ردود الفعل المدفوعة بمخاوف مبالغ في تقديرها. وكما يؤكد جون دويتش رئيس معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا السابق، فإذا حققت الولايات المتحدة التحسينات الممكنة في إمكانات الإبداع، "فمن المرجح أن تكون قفزة الصين الكبرى إلى الأمام في أفضل تقدير بضع خطوات أخرى نحو إغلاق فجوة قيادة الإبداع التي تتمتع بها الولايات المتحدة حاليا".
ستلعب الهجرة أيضا دورا مهما في الحفاظ على ريادة أمريكا التكنولوجية. في 2015، عندما سئل لي كوان رئيس وزراء سنغافورة السابق: لماذا لا يعتقد أن الصين ستتفوق على الولايات المتحدة؟ أشار إلى قدرة أمريكا على الاستفادة من مواهب العالم بأسره، وهو احتمال تحول دون تحققه قومية الهان العرقية في الصين. وليس من قبيل المصادفة أن يكون عديد من مؤسسي شركات وادي السيليكون ورؤسائها التنفيذيين آسيويين.
بمرور الوقت، وبفضل السفر، من المحتم أن تنتشر التكنولوجيا. وإذا سمحت الولايات المتحدة لمخاوفها بشأن التسرب التكنولوجي بحرمانها من مثل هذه الواردات البشرية القيمة، فإنها بهذا تتخلى عن واحدة من أكبر مزاياها. من الواضح أن السياسات التي تقيد الهجرة بشكل مفرط من شأنها أن تحد بشدة من الإبداع التكنولوجي، وهي حقيقة لا يجوز لنا أن نتغافل عنها في خضم سياسات المنافسة الاستراتيجية المحتدمة.

الأكثر قراءة