شيلي .. انتصار اليسار يعيد خلط أوراق واشنطن

شيلي .. انتصار اليسار يعيد خلط أوراق واشنطن
انتخاب الرئيس الجديد ثمرة لواحدة من أعنف الاحتجاجات في العالم.
شيلي .. انتصار اليسار يعيد خلط أوراق واشنطن
رياح اليسار تهب من جديد على أمريكا اللاتينية.

جاء فوز المرشح اليساري الشاب جابريال بوريك (35 عاما)، في الجولة الثانية من الرئاسيات في شيلي، بنسبة 56 في المائة، مقابل 44 في المائة لمرشح اليمين المتطرف خوسيه أنطونيو كاست (55 عاما)، عكس ما ذهبت إليه التوقعات والتقديرات. ليصنع بذلك فوز قائد تحالف "أنا أوافق على الكرامة" سيناريو آخر، بديلا عن تكرار نموذج بولسونارو في البرازيل، وترمب في الولايات المتحدة، في واحدة من أهم انتخابات رئاسية في الدولة، منذ استعادة الديمقراطية في 1990.
يعد الزعيم الطلابي بوريك حديث عهد بالسياسة، فقد ترشح كمستقل لعضوية مجلس النواب، في 2013، وأسس بعد ثلاثة أعوام حزبا باسم "الجبهة العريضة"، يناضل من أجل طي أكثر من صفحة في ماضي دولة شيلي، من ضمنها: القضاء على إرث الديكتاتور السابق أوجستو بينوشيه (1974-1990). وإنهاء التوازن شبه المتفق عليه بين اليسار الاشتراكي المعتدل واليمين المحافظ المعتدل، والقائم على تداول السلطة بين الفصيلين بديمقراطية انتخابية، مع الحفاظ على التراث السياسي والاقتصادي لبينوشيه.
أسهم الزلزال السياسي الذي هز البلاد، شهر تشرين الثاني (نوفمبر) في 2019، واتخذ شكل مظاهرات شعبية عارمة، احتجاجا على الأوضاع الاقتصادية، وانعدام المساواة الاجتماعية، واستمرار العمل بدستور 1980، الذي وضعه بينوشيه عقب الانقلاب على الرئيس الشرعي سلفادور الليندي، في تحقيق بعض المطالب. رغم محاولات الرئيس سيباستيان بنييرا من الحزب الديمقراطي المسيحي، حماية القواعد المورثة عن الحقبة الديكتاتورية بالقوة، وإعلان حالة الطوارئ، قبل أن يضطر للتراجع، والاعتذار العلني من الشعب.
يرى مراقبون في وصول جابريال بوريك، أصغر رئيس في تاريخ الدولة، إلى سدة الحكم، ثمرة لواحدة من أعنف الاحتجاجات في العالم. فقد دفعت هذه الأحداث إلى تدشين حقبة جديدة في شيلي، وفرض قواعد تؤطر اللعبة السياسية في الدولة. يبقى أهمها انتخاب مجلس تأسيسي، وكلت إليه مهمة وضع دستور جديد للبلاد.
متابعة العواصم الغربية لما يجري في شيلي، لا يقل أهمية عن متابعة وترقب الشيليين للوضع داخل الدولة، فعلى سبيل المثال ترصد واشنطن باهتمام بالغ الوضع هناك، فبلاد "القديس يعقوب" كانت دوما محور ضبط الإيقاع السياسي لدول أمريكا اللاتينية، حتى قيل إن هنري كسنجر، مستشار الأمن القومي، كان شخصيا وراء هندسة انقلاب الجنرال بينوشيه، حتى يؤمن الحديقة الخلفية لبلاده.
جاء فوز هذا اليساري الشاب ليعيد خلط أوراق واشنطن في المنطقة، خاصة وأنه عكس التوجه العام الذي يظهر اليمين المحافظ سائرا نحو استعادة المبادرة في أكثر من دولة هناك. ما سبق يجعل حكومة الرئيس بوريك محل مراقبة ورصد، الخارج قبل الداخل، فالرئيس الشاب وعد أكثر من مرة، خلال الحملة الانتخابية، بمراجعة أسس النظام الاقتصادي بتأكيده أن "البعض يعد تشيلي «مهد النظام النيوليبرالي» كما أرساه انقلاب بينوشيه، فإن عهد التحالف اليساري سيجعل من الدولة مقبرة ذلك النظام".
وصرح في أوج التنافس الانتخابي بأنه من "جيل نشأ في الحياة العامة، يطالب باحترام حقوقنا كحقوق وعدم معاملتنا مثل السلع الاستهلاكية أو الأعمال التجارية"، وأضاف بخطاب مباشر لا يحتمل التأويل "نحن نعلم أنه لا تزال هناك عدالة للأثرياء وعدالة للفقراء، ولن نسمح للفقراء بعد الآن بدفع ثمن عدم المساواة في شيلي". أثبت في برنامجه الانتخابي عزمه القيام بإصلاح ضريبي واسع، قصد زيادة مساهمة الأثرياء في دولة، يملك فيها 1 في المائة من السكان 26.5 في المائة من الثروات، مع ضمان الوصول بشكل أفضل إلى الخدمات الصحية والتربية وإنشاء نظام تقاعدي جديد للحلول محل النظام الحالي الخاص.
تصريحات تضاف إلى وعود الرئيس بتحقيق دولة على الطراز الاسكندنافي، لتثير مجتمعة ارتياب ومخاوف رجال الأعمال، وتأكد الأمر في الأشهر الأخيرة مع تدفق مليارات الدولارات من تشيلي نحو الخارج، ما أدى إلى انخفاض العملة المحلية، بنسبة 20 في المائة تقريبا، وتسجيل تراجع في سوق الأسهم، بنسبة 10 في المائة بعد إعلان فوز جابريال بوريك بيوم واحد، ما جعل شكوكا تحوم حول قدرة الرجل، على إيجاد تفاهم مع باقي القوى الوازنة داخل الدولة.
عززت الصورة النمطية لرؤساء يساريين في أمريكا اللاتينية من هذه المخاوف، لدرجة المقارنة بين بوريك ومستبدين يساريين أمثال الفينزويلي نيكولاس مادورو، وسعى جاهدا نحو تبرئة ذمته من هذه المقارنات، حين وصف الانتخابات الوهمية الأخيرة في نيكاراجوا بأنها "مهزلة"، وأعلن مساندته للمعارضة الكوبية، وطالب رفاقه اليساريين في الائتلاف إلى إعادة النظر في مواقفهم من رموز اليسار الاستبدادي في أمريكا الجنوبية.
يرجح أن يكون انتصار اليسار في الشيلي دافعا حاسما لشعوب دول القارة اللاتينية، تعاني سياقات اجتماعية واقتصادية وسياسية مشابهة، لاختيار قيادات مماثلة. فرضية يزيد تنامي الصراع القومي الهوياتي داخل دول أمريكا الجنوبية من نسب تحققها، مع العودة الناعمة والتدريجية لممثلي اليسار إلى مواقع الحكم في هذه الدول.
عاد اليسار في بوليفيا إلى الحكم قبل عام، بعد تولي لويس آرسي من حزب الحركة من أجل الاشتراكية، رئاسة الدولة في أعقاب فشل الانقلاب العسكري في 2019. وشهدت كوبا معقل اليساري، بنسخة آل كاسترو (42 عاما)، انتقال السلطة بسلالة إلى ميجيل دياز، ممثل الجيل الجديد من أبناء الثورة. وتسلم اليساري البرتو فرنانديز الرئاسة في الأرجنتين، بعد فوزه بانتخابات 2019 على الرئيس اليميني ماوريسيو ماكري. وصار بيدرو كاستيو المناضل اليساري رئيس البيرو عقب انتصاره في الانتخابات في أيار (مايو) الماضي. وفي المكسيك صعد اليسار للحكم للمرة الأولى، بعد الفوز التاريخي الذي حققه الرئيس مانويل أوبرادور، أواخر 2018 على اليمينيين من حلفاء أمريكا.
ويحتمل أن تتغير الأوضاع قريبا في البرازيل، بعد قرار المحكمة العليا إسقاط إدانة اليساري العتيد لولا داسيلفا في قضايا فساد، واستعادة الرجل لحقوقه السياسية، ما يفتح الباب أمامه للعودة إلى الحياة السياسية، مع ما يعني ذلك من احتمالية ترشحه للانتخابات الرئاسية، العام ضد الرئيس بولسونارو، صديق دونالد ترمب، الذي يعاني تدهور شديد في شعبيته ومكانته.
رياح اليسار تهب من جديد على أمريكا اللاتينية، ففوز بوريك يمنح هامش مناورة أكبر للحكومات اليسارية في القارة لإعادة ترتيب البيت الداخلي، ويخيب آمال الحكومات اليمينية المحافظة في البرازيل وكولومبيا والأوروجواي والباراجواي والإكوادور، ومعها واشنطن التي تحاول حماية وتحصين الحديقة الخلفية من أطماع التنين الصيني الذي يبحث عن فرص لكسب نقاط في معركة تكسير العظام المستمرة بين الطرفين منذ أعوام.

الأكثر قراءة