تنمية القدرات البشرية .. في إطاره العام
تنمية القدرات البشرية مسألة مستمرة منذ شاء الله تعالى للإنسان أن يحيا على هذه الأرض. و مثلت هذه القدرات رأس المال الحقيقي، أو بالأحرى الثروة الفعلية للأمم عبر الزمن. صحيح أن الطبيعة حول الإنسان مليئة بمصادر ثرية بالمعطيات المفيدة، إلا أن هذه المعطيات تبقى ساكنة، ما لم تمتد إليها يد الإنسان لتحركها وتفعلها وتستفيد منها. وتتنافس الأمم في العمل على تنمية القدرات البشرية لتكون متفوقة في العطاء، ومتمتعة بالتميز. وتبرز مهمات التنشئة والتعليم والتدريب والبحث والاكتشاف، والإبداع والابتكار، والعمل الجاد، وجمع الخبرات، كوسائل مطلوبة لتنمية القدرات البشرية.
تحدثنا في مقال سابق عن مرئيات "المنتدى الاقتصادي الدولي WEF" بشأن مدارس المستقبل، حيث قدم المنتدى ثماني أفكار رئيسة لتطوير التعليم والإسهام في بناء القدرات البشرية بالشكل المأمول. ثم ناقشنا في مقال آخر "القضايا الرئيسة الأربعة" المطلوبة من التعليم نتيجة لما أفرزته الخبرة مع فيروس كورونا الخبيث، كما رآها المنتدى ذاته. والحقيقة أن التعليم ليس المسؤول الوحيد عن تنمية القدرات البشرية، بل هو مسؤول رئيس عن ذلك، بل ربما يكون المسؤول الأول، لكن لا بد لجهات أخرى مختلفة من الإسهام في هذه التنمية، من أجل تعزيزها بالخبرات المتراكمة، وتفعيلها بدعم الابتكار والاستثمار فيه، والتوجه نحو جعلها ثقافة عامة لكل فرد، يهتم بها دون انقطاع، على مدى مسيرة الحياة، من أجل تنمية ذاته، ومن أجل الإسهام في تنمية وطنه.
اهتمت المملكة، وعلى مدى أعوام طويلة بتنمية القدرات البشرية. وقد كان أمرا سارا أن تصدر، قبل أشهر قليلة، وتتاح على الإنترنت "الوثيقة الإعلامية لبرنامج تنمية القدرات البشرية 2021 - 2025"، حيث أبرزت هذه الوثيقة تركيز المملكة على الاهتمام بهذا الأمر، وعلى وضع مبادرات للتنفيذ الفعلي للبرنامج المطروح. ولم يقتصر تركيز البرنامج على تنفيذ هذه التنمية من خلال التعليم فقط، بل شمل الجوانب الأخرى اللازمة لذلك. وحددت الوثيقة المخرج المنشود من البرنامج على أنه مواطن منافس عالميا. وسنناقش فيما يلي ما أوردته الوثيقة بشأن الجزء الخاص بإطار تنمية القدرات البشرية والمضامين التي طرحتها فيها. تضمن إطار تنمية القدرات البشرية أربعة محاور رئيسة يطلب الاهتمام بها. اختصت المحاور الثلاثة الأولى بالقدرات الأساسية المطلوبة من الجميع، وشملت: محور القيم والسلوكيات، ومحور المهارات الأساسية، ثم محور مهارات المستقبل. أما المحور الرابع فركز على القدرات التي تواكب متطلبات سوق العمل، وتتطلب التأهيل المعرفي المختص في المجالات التي يحتاج إليها السوق. وسنلقي بعض الضوء على كل من هذه المحاور فيما يلي.
إذا بدأنا بمحور القيم والسلوكيات، نجد تسع صفات بينتها الوثيقة الإعلامية للبرنامج في هذا المجال. الصفة الأولى هي صفة الانتماء الوطني التي تعزز الثقة بالجذور، والثقافة، بل الذات أيضا، وتفعل الالتزام الوطني، والسلوك المسؤول في شتى نواحي الحياة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن كين روبنسون Ken Robinson، خبير التعليم الشهير الذي رحل عام 2020، قد أكد أهمية مسألة الانتماء كهدف رئيس للتعليم في بناء شخصية الإنسان، إلى جانب أهداف أخرى مثل التوجه المهني وأثره الاقتصادي، وجوانب أخرى تعزز مخرجات التعليم.
تستهدف الصفتان التاليتان للصفة السابقة السلوك الاجتماعي للإنسان، وهما: التسامح والوسطية في التعامل مع الآخرين. ثم هناك صفات ثلاث تركز على متطلبات أداء الإنسان في العمل، وتشمل هذه الصفات: الانضباط في تنفيذ متطلبات العمل، والسعي إلى الإتقان في هذا التنفيذ، ثم الإيجابية في تعزيز الإنتاجية والعطاء المنشود. وهناك بعد ذلك صفات ثلاث أخرى تهتم بطموح الإنسان وحرصه على التفوق، وتتضمن هذه الصفات: العزيمة في الطموح، والمثابرة في العمل والتوجه نحو الإبداع والابتكار، والمرونة في التعامل مع متغيرات الحياة.
وننتقل إلى محور المهارات الأساسية، وبينت الوثيقة ثلاث مهارات أساسية في هذا المجال، يحتاج إليها الجميع. تشمل أولى هذه المهارات القدرة على الحساب والتقييم الرياضي الكمي في مختلف الموضوعات. وتتضمن المهارة الثانية القدرة على القراءة والكتابة، بما يشمل استيعاب المقروء، وفهم جوانبه المختلفة، والتمييز بين الغث والسمين فيها، ويضاف إلى ذلك القدرة على الكتابة والوصف والتعبير بلغة سليمة ومضمون مفهوم. وتأتي المهارة الثالثة بعد ذلك لتستجيب لمعطيات العصر، حيث تركز على التعامل الرقمي والاستجابة لمتطلبات العالم السيبراني الذي بات يشغل حيزا مهما في حياة الإنسان وتعاملاته الاجتماعية والمهنية.
ونأتي إلى محور مهارات المستقبل الذي يهتم بتميز الإنسان المستقبلي من خلال تعزيز قدراته في ثلاث مهارات رئيسة. ترتبط أولى هذه المهارات بالتفكير الموجه نحو التحليل النقدي، والتصور الإبداعي، والعطاء الابتكاري. وتركز المهارة الثانية على المهارات الاجتماعية والعاطفية التي ترتقي بإمكانات الإنسان في التعامل مع الآخرين، ويبرز في هذا المجال موضوع الذكاء العاطفي الذي تحدثنا عنه في مقالات سابقة، وبات متطلبا اجتماعيا ومهنيا في شؤون الحياة المختلفة. ثم هناك المهارة الثالثة التي تهتم بالمهارات العملية، مثل الممارسات المالية والتعامل مع المعطيات التقنية المتجددة من جهة، إضافة إلى مهارات اللياقة البدنية والمحافظة على الصحة.
وهكذا نصل أخيرا إلى محور متطلبات سوق العمل والتأهيل المطلوب لذلك في الموضوعات ذات العلاقة، حيث تبرز هنا متطلبات موضوعات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته في مختلف المجالات، وموضوعات العالم السيبراني، والتقدم الطبي والخريطة الجينية، وموضوعات أخرى تجب متابعتها، بل السعي إلى الإسهام فيها، بل الاستباق في طرح معطيات مفيدة وغير مسبوقة. لا شك أن مقالا محدودا كهذا المقال لا يستطيع الاستطراد في طرح مضامين أفكار وتوجهات إطار برنامج تنمية القدرات البشرية، لكن الأمل أن يكون قد ألقى بعض الضوء على هذه المضامين. والأمل أيضا أن تتضافر جهود الجميع نحو بناء القدرات البشرية المأمولة في الأجيال المتجددة، بل الاستجابة للمتغيرات، في تطوير هذه القدرات. فالفوائد الناتجة عن ذلك تصل إلى كل فرد، وإلى المجتمع، حيث تعم الجميع.