تنمية القدرات البشرية .. والمهارات الأساسية

تضمن الإطار العام لبرنامج تنمية القدرات البشرية، طبقا للوثيقة الإعلامية للبرنامج، توجهه نحو بناء المواطن المنافس عالميا، وطرحه أربعة محاور رئيسة لهذه القدرات. واختصت المحاور الثلاثة الأولى بالقدرات الأساسية المطلوبة من الجميع، وشملت: محور القيم والسلوكيات، ومحور المهارات الأساسية، ثم محور مهارات المستقبل. أما المحور الرابع، فركز على القدرات التي تواكب متطلبات سوق العمل، وتتطلب التأهيل المعرفي المختص في المجالات التي تحتاج إليها السوق. وقد قدم المقال السابق، إيجازا لهذه المضامين. وغاية هذا المقال هي مناقشة مسألة المهارات الأساسية بشيء من التفصيل.
تتمتع المهارات الأساسية، بمفهومها العام بأهمية كبيرة في حياة كل إنسان، فهو بحاجة إليها، بصرف النظر عن مستوى التعليم الذي يصل إليه. ففيها تلقي المعلومات والتعامل معها، والتعبير عن الذات اجتماعيا ومهنيا، فضلا عن أن متطلباتها تطورت عبر الزمن، مع تطور متطلبات الحياة، منذ أن وضعت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم "اليونيسكو" مفهومها الأول للمهارات الأساسية المطلوبة لمحو الأمية عام 1958. وسنستعرض هذا التطور تبعا لما ورد في تقرير، حول الموضوع، صادر عام 2009 عن معهد الإحصاء التابع لـ "اليونيسكو"، وسيكون ذلك تمهيدا لمناقشة المهارات الأساسية الواردة في برنامج تنمية القدرات البشرية عام 2021.
تضمن تعريف منظمة اليونيسكو للمهارات الأساسية المطلوبة لمحو الأمية، أو بالأحرى اكتساب الأهلية الأساسية، الصادر عام 1958، "قدرة الإنسان على قراءة وكتابة نص بسيط حول حياته اليومية". وبعد ذلك بعقدين، أي: عام 1978، تطور هذا التعريف ليصبح "قدرة الإنسان على القراءة والكتابة وتنفيذ الحسابات البسيطة". وبعيد الدخول في الألفية الجديدة للميلاد، وتحديدا عام 2003، بات التعريف يقول: إن المطلوب هو "قدرة الإنسان على الفهم والتعبير والتفسير والإبداع والتواصل والتعلم من أجل تحقيق أهدافه وتمكنه من أن يكون عضوا إيجابيا في المجتمع يشارك الآخرين في نشاطاته". وفي عام 2004، أي: بعد عام واحد من هذا التعريف، أضافت منظمة اليونيسكو إليه أمرا آخر هو استيعاب مبدأ التعددية، وقبول الاختلاف مع الآخرين في قضايا الحياة، بما يعزز الوئام بين الناس ويمكن الشراكة بين الجميع في خدمة المجتمع.
أعطى تقرير "اليونيسكو" المذكور، إضافة أخرى إلى المهارات الأساسية شملت تقسيمها إلى ثلاثة أقسام رئيسة. شمل القسم الأول "التعامل مع النصوص" بمعنى استيعاب محتوياتها، بما تشمله من كلمات وجمل وفقرات. وتضمن التعامل مع الأرقام، بما يشمل كل ما يرتبط بالأطوال، والأحجام، والأشكال، والقيم المالية، والإحصائيات، إضافة إلى العلاقات الرياضية البسيطة. ثم طرح القسم الثالث موضوع التعامل مع الوثائق التي تشمل نصوصا وأرقاما، إلى جانب الجداول والخرائط في المجالات المختلفة.
تتقدم المهارات الأساسية، التي عرضها برنامج تنمية القدرات البشرية، على كل ما سبق. فقد شملت هذه المهارات ثلاثا. أولها، مهارة القدرة على الحساب والتقييم الرياضي الكمي في مختلف الموضوعات. وثانيها، مهارات القدرة على القراءة والكتابة، ويتضمن ذلك استيعاب المقروء، وفهم جوانبه المختلفة، والتمييز بين الغث والسمين فيها، إضافة إلى القدرة على الكتابة والوصف والتعبير بلغة سليمة ومضمون مفهوم. أما المهارة الثالثة، فتقضي بالاستجابة لمعطيات العصر، حيث تركز على التعامل الرقمي والتعامل مع العالم السيبراني الذي يرفع كفاءة الإنسان وفاعليته في كثير من النشاطات المهنية والاجتماعية، فضلا عن منحه مزيدا من الرفاهية.
لا شك أن المهارات الأساسية، مقرونة بالقيم والسلوكيات، متطلبات تؤسس لمهارات المستقبل ومهارات سوق العمل. فهي تعزز إمكانات الإنسان في الاطلاع واكتساب الخبرة، وتفعل قدرته على اكتساب المهارات الأكثر تقدما. وعلى ذلك يجب تمكين الناشئة من امتلاك المهارات الأساسية، مقرونة بالقيم وبالسلوكيات، من أجل الانطلاق نحو اكتساب مهارات المستقبل، ومتطلبات سوق العمل، كما أوردها برنامج تنمية القدرات البشرية.
ليست مهارات القراءة المطلوبة في هذا العصر هي تلك التي كانت عرفتها "اليونيسكو" في بدايات تحديدها للأهلية المطلوبة ومحو الأمية، بل هي قراءة الفهم والاستيعاب كما طرحتها "اليونيسكو" لاحقا، وكما يريدها برنامج تنمية الموارد البشرية. إنها القراءة النقدية، فالفهم الفعلي لا يأتي بالقراءة السطحية، وإنما يأتي بالقراءة عبر التساؤلات. ماذا عن الموضوع المقروء؟ وما أهميته؟ ما الأفكار المطروحة؟ وهل هي موثقة بالتفسيرات والأدلة المناسبة؟ هل هناك أفكار أخرى توافق أو تناقض هذه الأفكار؟ هل قاد فهمي لهذه الأفكار إلى تكوين رأي موضوعي بشأنها؟ وهل لدي مسوغات بهذا الشأن؟ مثل هذه التساؤلات تعمق الفهم، وربما تقود إلى أفكار جديدة تثري المقروء برؤية أوسع وفهم أكثر شمولا وتمييز أعمق بين الغث والسمين.
ولا شك أن الكتابة، كالقراءة تحتاج أيضا إلى تساؤلات توضيحية وأدلة توثيقية. لكن هذا بذاته لا يكفي، فهي تحتاج أيضا إلى صياغة حسنة للجمل، تشمل كلمات مناسبة، معززة بتعبيرات واضحة، وتقسيم ملائم للفقرات، وتسلسل منطقي للأفكار، كي تصل بالشكل المناسب والفكر المطلوب إلى القارئ المستهدف. وفي إطار مهارات القراءة والكتابة، تبرز أيضا مهارة التحدث، وهي مهارة تحتاج إلى متطلبات تتوافق مع متطلبات الكتابة، لكنها تضيف إليها أيضا جوانب صوتية، فضلا عن اللباقة وحسن التعامل مع الأطراف المستهدفة بالحديث.
ويمثل التعامل مع الأرقام والعلاقات الرياضية، في إطار المهارات الأساسية، لغة إضافية يجب اكتسابها وتعلم قراءتها وكتابتها بالطرق العلمية المناسبة. وكذلك الأمر بالنسبة للتعامل مع العالم السيبراني، الذي يمثل أيضا لغة إضافية أخرى تحتاج أيضا إلى القراءة والكتابة تبعا لمعطياتها. وستبرز أمامنا، في المستقبل القريب، لغة إضافية ثالثة هي لغة التعامل مع أدوات الذكاء الاصطناعي التي بدأت تأخذ طريقها إلى المستقبل.
وإذا كان من كلمة أخيرة فهي دعوة مناهج التعليم، ووسائل الثقافة والإعلام، بل المجتمع بأسره، إلى الإسهام في بناء المهارات الأساسية، معززة بالقيم والسلوكيات، لجميع أبناء المجتمع، خاصة الناشئة، إضافة إلى تفعيلها في شؤون الحياة، وتعزيز المهارات المهمة الأخرى، من أجل مستقبل يصبح فيه كل مواطن منافسا عالميا ورائدا لمستقبل نريده أكثر إشراقا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي