أزمة أوكرانيا وروسيا تعيد مجمل حسابات واشنطن

أزمة أوكرانيا وروسيا تعيد مجمل حسابات واشنطن

قبل نحو عام ونصف عولت أغلبية شعوب العالم على قدوم إدارة أمريكية جديدة، تضع حدا لما يجري من أحداث ذات أبعاد مليئة بالعنف والدمار، لما شهدته السياسة العالمية من خروج عن الأعراف السياسية والدبلوماسية بين الدول من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى، التي كانت تفرض هيبة واشنطن بالقوة وكاريزما الرئيس، الذي كان مثارا للجدل أينما حل وارتحل، لتأتي الإدارة الحالية مبشرة بالنسبة إلى البعض بنهاية حقبة من الانحراف الأمريكي، لكن الرئيس الديمقراطي جاء حاملا إرثا تقليديا سياسيا أمريكيا، بمواجهة الروس كأولوية له، لتكون أبعاد هذه المواجهة مقدمة لوقوع حرب عالمية قد تنهك عالما مثقلا بهزائم بشرية واقتصادية جراء حرب غير تقليدية مع فيروس كورونا، تسبب في إغلاق العالم عن بكرة أبيه.
تستعد إدارة بايدن لدفع الولايات المتحدة إلى التدخل في أي عمل عسكري روسي تجاه أوكرانيا، إذ رفع الأمريكيون وتيرة التأهب بتزويد أوكرانيا وبولندا ودول أخرى موالية لها هناك بالأسلحة المضادة للدبابات والدروع، وتسليم القوات الأوكرانية تجهيزات عسكرية ثقيلة، كما تعهدت بالدفاع عن الحليف الأوكراني، لوضع حد للتهديدات الروسية المسلحة، ولم تكتف واشنطن بذلك، بل كانت حاضرة بالفعل، إذ نقلت مجموعات من جنودها المقاتلين إلى منطقة بحر البلطيق والدول المجاورة لأوكرانيا، للتعامل مع أي غزو روسي محتمل للأراضي الأوكرانية، لتلفت إدارة بايدن أنظار العالم إلى أمور عدة مغايرة لسلوكها منذ دخولها بوابة البيت الأبيض، فالإدارة الديمقراطية، التي اتبعت الميل إلى السلم متحمسة للحرب أكثر من الروس أنفسهم، إذ لا تفوت واشنطن في أي مناسبة أو محفل أنها وحلفاءها مستعدون للدفاع عن أوكرانيا، فيما تكتفي موسكو بحشد مزيد من القوات على الحدود مع أوكرانيا، كورقة ضغط على الغرب وأمريكا لوقف مد حلف شمال الأطلسي "الناتو"، وعدم الاقتراب أكثر من الأراضي الروسية.
تعيش بكين هذه الأيام إجازة مفتوحة بعد انشغال واشنطن بالتوتر الروسي الأوكراني لتعيد ترتيب أولوياتها، واستغلال أي تطور يمس القضية الروسية الأوكرانية، إذ أرسلت طائرة مقاتلة تابعة لقواتها الجوية كبالون اختبار إلى الأجواء التايوانية، لتتأكد من حقيقة عدم تفرغ واشنطن لها هذه الفترة، ما يعطيها مساحة أكبر في التعامل مع الشؤون السياسية المتعلقة بتوسعها السياسي، إذ تعد بكين ملف تايوان من الملفات الـ"عالقة"، وبحاجة إلى تسويات، خصوصا أن مسألة تايوان وهونج كونج مشابهة إلى حد كبير لما يجري اليوم من نزاع على إقليم دونتسك، الذي تعده موسكو أملاكا تابعة لها، ويحظى بمكانة جغرافية مهمة.
لطالما وصفت الإدارة الأمريكية الحالية بأنها إدارة غير مبالية بخارج الحدود، مقارنة بالهيمنة الأمريكية العالمية المعتادة، فمن كان يتوقع - بحسب مراقبين - أن ميليشيات إيران في العراق وسورية، التي عانت الأمرين من عقوبات إدارة دونالد ترمب على النظام الإيراني في طهران، وحملته خسائر اقتصادية كبيرة، بسبب توجيه ضربات صاروخية إلى قواعد أمريكية في العراق، إضافة إلى استهداف مراكز أمريكية على الحدود بين سورية والعراق، أدت إلى مقتل مواطن أمريكي، بينما في الوقت الحالي تستمر الميليشيات في استهداف مصالح واشنطن هنا وهناك، نتيجة لحالة الترقب الأمريكية، التي تمارس عليها طهران ضغوط كبيرة، لتقديم مزيد من التنازلات فيما يتعلق بمفاوضات الاتفاق النووي الجديد في فيينا.
كما قررت واشنطن الانسحاب من أفغانستان، وتسليمها لحركة طالبان العدو الأول لها في وقت من الأوقات، الذي يعد المظلة والحاضنة لتنظيم القاعدة الإرهابي، الذي كان سببا في توجيه ضربات موجعة إلى العمق الأمريكي المعروفة بضربات 11 أيلول 2001، حيث سيطرت "طالبان" على العاصمة كابل في غضون أيام، بعد مواجهات عنيفة مع الجيش الأفغاني المدرب أمريكيا، لتستولي الحركة المدرجة كمنظمة إرهابية على سجلات واشنطن وعلى طائرات وأسلحة وعتاد أمريكي، فيما اكتفت واشنطن بالانسحاب، ولم تدافع حينها عن حليفها الأفغاني الرئيس أشرف غني، الذي فضل الهرب على متن إحدى طائرات الشحن، تاركا خلفه عودة بلاده إلى نقطة الصفر بعد تولي "طالبان" مقاليد الحكم في البلاد.
سبقت منطقة شرق الفرات ذات الأغلبية الكردية أفغانستان بتعرضها لانسحاب مفاجئ، خلال فترة حكم الرئيس السابق ترمب، إذ شكل الانسحاب حينها ضربة في مقتل للأكراد، خصوصا أن تلك الفترة شهدت حملات عسكرية تركية، بحجة مواجهة اختراقات متكررة لحزب العمال الكردستاني، لتصبح المناطق الكردية بين فكي كماشة، إذ تشير التجارب الأخيرة - بحسب مراكز الدراسات الدولية - إلى أن واشنطن لا يعول عليها كثيرا في التحالفات، كما ذكرت مراكز دراسات دولية أن واشنطن لم تقف إلى جانب حلفائها الأهم والأبرز في منطقة الشرق الأوسط، وسحبت جماعة الحوثي من تصنيفها كجماعة إرهابية، فيما يخوض أبناء اليمن والمنطقة حربا مفتوحة معهم منذ 2015.
التغير المفاجئ الذي أصاب الإدارة الأمريكية لافت بدرجة كبيرة، إذ أصبحت تمارس واشنطن اليوم سياسة الهجوم ودفع روسيا نحو الحرب - بحسب مراقبين -، وكأن الجهود تتلخص في حتمية الحرب وعدم التنازل لإعطاء فرصة للمفاوضات، في حين تستمر موسكو في تبرير موقفها من عدم رغبتها في الحرب، في ظل تخوف عالمي من نشوب حرب قد تكون نواة الحرب العالمية، التي ستقع في ظروف قد تشكل مآلات غير محمودة العواقب، بسبب ما تختزنه الترسانات النووية لكل أطراف النزاع.

الأكثر قراءة