ما وراء العملية العسكرية في أوكرانيا

ما وراء العملية العسكرية في أوكرانيا
قد يكون تغيير النظام في كييف هدف روسيا من وراء هذه العملية.
ما وراء العملية العسكرية في أوكرانيا
الروسي عازم على إعادة ترسيم الخرائط الجيوستراتيجية أوروبيا.

قامت روسيا، كما توقع أغلب المراقبين، بالتدخل عسكريا في أوكرانيا، في "عملية عسكرية خاصة"، بتعبير فلاديمير بوتين، لبلوغ أهداف محددة سلفا، ترى موسكو ضرورة تحقيقها لضمان الأمن القومي الروسي. فقد بات حلف الناتو يقترب أكثر فأكثر من عنق روسيا، بعد توسعه على دفعات "2004 و2009 فـ2017 ثم 2020"، ليضم دول البلطيق "إستونيا ولاتفيا وليتوانيا" والبلقان "ألبانيا وبلغاريا ومقدونيا، والجبل الأسود" وأوروبا الشرقية "رومانيا وسلوفينيا وسلوفاكيا وكرواتيا"، ولم يبق إلا جورجيا وأوكرانيا.
يبدو بوتين ثعلب السياسة الماكر ممسكا بزمام اللعبة، على الجبهات الداخلية والإقليمية والدولية كافة، فتحركات تلميذ المخابرات الروسية النجيب بعثرت قطع الشطرنج في المشهد الأوكراني، بعد الاعتراف باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوجانسك بالتوازي مع إطلاق عملية عسكرية ميدانية، مع الإبقاء على باب التفاوض مفتوحا، فروسيا منفتحة على المسالك الدبلوماسية، ما دامت، وفق معطيات الميدان، في موقع قوة، يمكنها من فرض شروطها على الجميع، أوكرانيا وحلفائها في الناتو.
نجحت روسيا في التصدي لمشروع قرار أمريكي في مجلس الأمن، يدين التدخل العسكري في أوكرانيا، بعد استخدامها حق النقض، ضد القرار الذي حظي بتأييد 11 دولة، وامتناع كل من الصين والهند والإمارات عن التصويت، فالتعديلات الأمريكية المتكررة على مسودة المشروع، من أجل تلطيف لغته، لم تتمكن من تمريره، وأظهر حجم الدعم الصريح أو الضمني للتحرك الروسي، فقد فسر السفير الصيني موقف بلاده من القرار بقوله "يجب أن تكون أوكرانيا جسرا ما بين الشرق والغرب، لا بؤرة للصدام بين القوى العظمى، ونحث جميع الأطراف المعنية على ممارسة ضبط النفس بأعلى درجاته، ونزع فتيل التوتر وتجنب سقوط الضحايا من المدنيين".
وكشفت موسكو أمام العالم مستوى العجز الأوروبي، حيث أظهر التدخل العسكري الأوروبيين ضائعين وتائهين بلا حول ولا قوة، ربما لأول مرة في التاريخ الحديث، فلم يجدوا بين أيديهم سوى الحديث، حد الإفراط، عن سلاح العقوبات الاقتصادية. رغم أن سيناريو التدخل على هذا النحو وحتى توقيته كان معلوما لدى أجهزة الاستخبارات. لقد ولى زمن الاتحاد الأوروبي الحاضر دوما، بالقول أو الفعل، في معادلات السياسة العالمية. وأيقن الأشهاد أن أوروبا فعلا قارة عجوز غير قادرة على حماية نفسها، فأنى لها الانتقال إلى مستوى الدفاع عن الآخرين.
وفضحت الأزمة الأوكرانية مستوى الوهن في حلف الناتو، فهو أقرب إلى تكتل من ورق أو كذبة بروتوكولية، منه إلى حلف عسكري دفاعي. فالتصدعات في المعسكر الغربي لم تخطئها العين، من تراجع مستوى الثقة بالولايات المتحدة الأمريكية العمود الفقري للحلف. وبروز حسابات خاصة لدول بعينها، كما هي حال ألمانيا مع روسيا. علاوة على مساعي فرنسا المستمرة للخروج من عباءة الحلف بالاعتماد على الذات، بعيدا عن وصاية واشنطن وتحفظات أنقرة بشأن أكثر في الشرق الأوسط.
ما يجري في أوكرانيا يمثل إرهاصات تشكيل نظام عالمي جديد، يعيش العالم على وقع صراع إرادات وقوى لإعادة تشكيل الموازين الجيوسياسية عالميا، فالدب الروسي، على ما يبدو، عازم على إعادة ترسيم الخرائط الجيوستراتيجية أوروبيا. وقد يذهب بعيدا، في العودة بها إلى الحدود التي كانت قائمة في حقبة الحرب الباردة، بين المعسكرين الشرقي والغربي، ولم لا محاولة فرض توازنات جيوسياسية عالمية جديدة؟
لن يتوانى بوتين في استغلال هذه الفرصة التاريخية للزج بالعالم في مخاض عسير لإعادة تشكيل نطام عالمي جديد، فأوروبا اليوم في وضع صعب أكثر من غيرها، لأنها على تماس مباشر مع النزاع، خصوصا الدول التي تحتفظ بحدود مع أوكرانيا، وعلى أراضيها قواعد وقوات أمريكية "بولندا ورومانيا". كما أن أي تحرك دولي ضد روسيا سينطلق من القارة العجوز، وهذا يفرض تحديات دفاعية واقتصادية وسياسية كبيرة، ولا سميا في مجال الطاقة، فروسيا أكبر مصدري النفط والغاز في العالم، وتعتمد أوروبا على 40 في المائة من الغاز الروسي.
يريد بوتين من وراء تحييد أوكرانيا استعادة الكبرياء الروسي، فلا تزال روسيا حتى وقت قريب "قوة إقليمية"، كما جاء على لسان الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، في أعقاب تدخلها العسكري في شبه جزيرة القرم 2014. لذا لن يتردد في إثبات أن روسيا قوة عالمية، إلى جانب الكبار مثل الولايات المتحدة الأمريكية والصين. وهذا مبرر موضوعي آخر، يفسر تخلف موسكو عن نسج تحالف مع بكين، على غرار حلف الناتو، رغم تواتر الكلام عنه في الأوساط الإعلامية أخيرا.
إلى جانب معوقات أخرى، تاريخية وجغرافية وحتى اقتصادية، فلدى الدول حدود برية ممتدة بآلاف الأميال، وكان الخلاف بشأنها سببا وراء اصطدام عسكري 1969، فضلا عن قلق روسيا من التمدد الصيني المتواصل داخل نفوذها التقليدي، كما هي الحال في آسيا الوسطى، إحدى المناطق المحورية في مبادرة الحزام والطريق الصينية. علاوة على مراكز الدولتين في قائمة الاقتصادات الكبرى عالميا، فالصين ثاني قوة بعد الولايات المتحدة الأمريكية، فيما تكتفي روسيا بالمركز 11 عالميا، ما يجعلها في أي تحالف ثنائي أشبه بقزم يجري وراء عملاق، وهذا ضد طموحات الرئيس الروسي، التي امتزج فيها الإرث السوفياتي بالمجد القيصري.
قد يكون تغيير النظام في كييف هدف روسيا من وراء هذه العملية العسكرية، لكن إدارة بوتين ما انفكت تردد أن خيار الجلوس إلى طاولة المفاوضات متاح في أي وقت. يفهم من ذلك أن موسكو نجحت في إسقاط فكرة الانضمام إلى الناتو لدى النظام في أوكرانيا، وبعثت برسالة إلى الدول المجاورة، المحسوبة على دائرة الأمن القومي الروسي، مفادها أن هذه الأخيرة لا تقبل مناكفة ولا مزاحمة الأصدقاء وبالأحرى الأعداء في أحوازها.

الأكثر قراءة