رأس المال في كل مكان لكن الرأسمالية إلى زوال

رأس المال في كل مكان لكن الرأسمالية إلى زوال
تكتلات عازمة على تحويل الإنترنت إلى سلعة لتحقيق أغراض بعينها.

ذات يوم كانت السلع الرأسمالية مجرد وسائل إنتاج مصنعة، كانت معدات الصيد التي أنقذها روبنسون كروزو، ومحراث المزارع، وفرن الحداد، سلعا ساعدت على جمع صيد أكبر، وإنتاج مزيد من الطعام، وتصنيع أدوات فولاذية لامعة. ثم جاءت الرأسمالية فمنحت أصحاب رأس المال مصدرين جديدين للقوة، القدرة على إجبار أولئك الذين لا يملكون رأس المال على العمل في مقابل أجر، وسلطة وضع الأجندات في مؤسسات صنع السياسات. لكن اليوم، يظهر شكل جديد من أشكال رأس المال يعمل على تكوين طبقة حاكمة جديدة، وربما حتى نمط جديد من أنماط الإنتاج. بحسب يانيس فاروفاكيس، وزير المالية السابق في اليونان، أستاذ الاقتصاد في جامعة أثينا.
وبحسب "بروجكت سنديكيت"، فإنه عند بداية هذا التغيير كان التلفزيون التجاري، الذي يبث مجانا. لم يكن من الممكن تحويل البرمجة ذاتها إلى سلع، ولهذا كانت تستخدم لجذب انتباه المشاهدين قبل بيعها للمعلنين، واستخدم رعاة البرامج قدرتهم على الوصول إلى انتباه الناس ليأتوا بعمل جريء، تسخير العواطف "التي أفلتت من محاولات تحويلها إلى سلع" لمصلحة مهمة تعميق جهود تحويل كل شيء إلى سلعة.
الواقع أن جوهر مهمة المعلن عبر عنه بوضوح سطر جاء على لسان دون درابر، البطل في المسلسل التلفزيوني "رجل مجنون"، الذي تدور أحداثه في عالم صناع الإعلان في ستينيات القرن الـ20. في إطار تدريب تلميذته بيجي على كيفية التفكير في شوكولاتة هيرشي التي كانت شركته تروج لها، أوجز درابر روح العصر، "أنت لا تشترين شوكولاتة هيرشي مقابل أونصات من الشوكولاتة، بل تشترينها لاستعادة الشعور بكونك إنسانة محبوبة، الذي عرفته عندما كان والدك يشتري لك هذه الشوكولاتة، لأنك جززت العشب". كان الاستغلال التجاري الضخم للحنين إلى الماضي، الذي ألمح إليه درابر، نقطة تحول في تاريخ الرأسمالية، وضع درابر إصبعه على طفرة جوهرية في حمض الرأسمالية النووي، لم يعد تصنيع الأشياء التي يريدها الناس بكفاءة كافيا، إذ كانت رغبات الناس في حد ذاتها منتجا يتطلب التصنيع الماهر.
ما إن استحوذت على شبكة الإنترنت الوليدة تكتلات عازمة على تحويلها إلى سلعة حتى تحولت مبادئ الإعلان إلى أنظمة خوارزمية تسمح باستهداف شخص بعينه، وهو ما لم يكن بوسع التلفزيون أن يدعمه. في مستهل الأمر، عملت الخوارزميات "كتلك التي تستخدمها شركات جوجل، وأمازون، ونتفليكس" على تحديد مجموعات من المستخدمين الذين يشتركون في أنماط بحث وتفضيلات متشابهة، ثم تجميعها معا لإتمام عمليات البحث، أو اقتراح الكتب، أو التوصية بأفلام بعينها. وجاء الاختراق عندما لم تعد الخوارزميات سلبية.
بمجرد تمكن الخوارزميات من تقييم أدائها لحظيا، بدأت تعمل عمل الوكلاء، فتراقب وتتفاعل مع نتائج تصرفاتها. وقد تأثرت بالطريقة التي فرضت بها تأثيرها في الناس. وقبل أن ندرك، انتزعت مهمة غرس الرغبات في أرواحنا من دون وبيجي، وأعطيت إلى أليكسا وسيري. وينبغي لأولئك الذين يتساءلون عن مدى حقيقة التهديد الذي يفرضه الذكاء الاصطناعي على وظائف أصحاب الياقات البيضاء "أرباب الأعمال والموظفين والإداريين" أن يسألوا أنفسهم: ماذا تفعل أليكسا على وجه التحديد؟ ظاهريا، تعد أليكسا خادما ميكانيكيا يعمل في المنزل، الذي يمكننا توجيه الأمر إليه بإطفاء الأنوار، وطلب الحليب، وتذكيرنا بالاتصال بأمهاتنا، وما إلى ذلك. بطبيعة الحال، أليكسا ليست سوى واجهة أمامية لشبكة عملاقة من الذكاء الاصطناعي قائمة على الحوسبة السحابية التي يقوم ملايين المستخدمين بتدريبها عدة مليارات من المرات كل دقيقة. عندما نتبادل الحديث على الهاتف، أو نتحرك لنقوم بمهام داخل المنزل، تتعرف هذه الشبكة على تفضيلاتنا وعاداتنا. وبينما تتعرف علينا، فإنها تعمل على تطوير قدرة خارقة على مفاجأتنا بتوصيات وأفكار جيدة تثير اهتمامنا. وقبل أن ندرك، يكتسب النظام صلاحيات ضخمة لتوجيه اختياراتنا، أو إصدار الأوامر إلينا فعليا.
مع استيلاء أجهزة أو تطبيقات تستند إلى الحوسبة السحابية من قبيل أليكسا على الوظيفة التي كان دون درابر يشغلها في السابق، نجد أنفسنا في حالة جدلية شديدة من الانحدار اللانهائي، فنحن ندرب الخوارزمية لتدربنا على خدمة مصالح مالكيها. وكلما استغرقنا في القيام بذلك، تعلمت الخوارزمية بسرعة أكبر كيف تساعدنا على تدريبها على إصدار الأوامر إلينا. ونتيجة لهذا، يستحق مالكو رأس المال القيادي الخوارزمي القائم على الحوسبة السحابية مصطلحا يميزهم عن الرأسماليين التقليديين.
يختلف أولئك "القائمون على السحابة" تمام الاختلاف عن مالكي شركة إعلانات تقليدية ربما تقنعنا إعلاناتها أيضا بشراء ما ليس لنا به حاجة ولا نريده. فمهما كان موظفوها لامعين أو ملهمين، كانت شركات الإعلان مثل شركة ستيرلينج كوبر في مسلسل "رجل مجنون" تبيع خدماتها لشركات تحاول بيع منتجاتها لنا. في المقابل، يمتلك القائمون على السحابة قوتين جديدتين تميزانهم عن قطاع الخدمات التقليدي.
أولا، يستطيع القائمون على السحابة استخراج قدر ضخم من الريع من الشركات المصنعة التي يقنعوننا بشراء منتجاتها، لأن رأس المال القيادي ذاته الذي يجعلنا راغبين في الحصول على تلك المنتجات هو الأساس الذي تقوم عليه المنصات Amazon.com، على سبيل المثال، التي تدور عليها عمليات الشراء. الأمر وكأن شركة ستيرلينج كوبر استولت على الأسواق حيث تباع السلع التي تعلن عنها. يعمل القائمون على السحابة على تحويل الرأسماليين التقليديين إلى طبقة تابعة جديدة يتعين على أفرادها أن يدفعوا لهم الجزية مقابل الفرصة لبيع منتجاتهم لنا.
ثانيا، تمتلك الخوارزميات ذاتها التي توجه مشترياتنا أيضا القدرة على توجيه الأوامر إلينا مباشرة لإنتاج رأس المال القيادي الجديد لمصلحة القائمين على السحابة. نحن نفعل هذا في كل مرة ننشر فيها صورة على "إنستجرام"، أو نكتب تغريدة على "تويتر"، أو نقدم مراجعة لكتاب على موقع أمازون، أو نتنقل ببساطة حول المدينة حتى تسهم هواتفنا ببيانات حول الازدحام لمصلحة خرائط جوجل.
لا عجب إذن أن تواصل الطبقة الحاكمة الجديدة الصعود، التي تضم مالكي شكل جديد من رأس المال القائم على الحوسبة السحابية، الذي يأمرنا بإعادة إنتاجه ضمن مملكته الخوارزمية التي تتألف من منصات رقمية مصممة لتحقيق أغراض بعينها وخارج المنتج التقليدي أو أسواق العمل. إن رأس المال في كل مكان، لكن الرأسمالية تتجه إلى زوال. وفي عصر اكتسب فيه أصحاب رأس المال القيادي قدرا مفرطا من السلطة على الجميع، وعلى الرأسماليين التقليديين بشكل خاص، لا يشكل هذا تناقضا.

الأكثر قراءة