حماية العالم السيبراني .. الثقافة والمجتمع
يبقى الإنسان، في كل زمان ومكان، العنصر الحي الأكثر قوة في هذا العالم، وتبقى الطبيعة من حوله الكنز الذي منحه الله له ليعيش على خيراته. الإنسان هو العنصر الحي المحرك للمؤسسات الكبيرة منها والصغيرة، وهو العنصر الحي القائم على إدارة شؤون الدول وقدراتها وطموحاتها المستقبلية. والإنسان هو المكتشف لمناهل كنز الطبيعة، هو المبدع للأفكار، وهو المبتكر للتقنيات. وعلى الرغم من محدودية عمر حياة الإنسان الفرد، إلا أن البعد الزمني لمعرفته وخبراته أوسع كثيرا من أعوام حياته، لأن المعرفة والثقافة والخبرة التي يكتسبها الإنسان ليست حصيلة حياة شخص واحد، بل إنها حصيلة تراكمت عبر أجيال عديدة، وعلى مدى أعوام طويلة. وقد استطاع الإنسان، عبر العصور، تقديم تقنيات كثيرة ومتجددة غايتها خدمة متطلباته والاستجابة لطموحاته، ولعل تقنيات العالم السيبراني بين أبرزها في هذا العصر.
ليست تقنيات العالم السيبراني سوى وسائل لمساعدة الإنسان على أداء كثير من الأعمال والنشاطات بكفاءة أجدى، ورشاقة أعلى، وفاعلية أكبر. وفي هذا الإطار، تمتاز هذه الوسائل بميزتين مهمتين، فهي من ناحية ترتبط بالنشاطات المعلوماتية، وهذه النشاطات قاسم مشترك تحتاج إليه شتى الأعمال المهنية، وترتبط به مختلف العلاقات الاجتماعية، ثم هي من ناحية أخرى تشغل ميدانا غير مسبوق في اتساعه، لأنه يحيط بالعالم بأسره، من أقصاه إلى أقصاه. تجذب الميزة الأولى الناس إلى هذا العالم، وتضعهم الميزة الثانية جميعا معا في واحة سيبرانية مشتركة تحيط بالعالم متجاوزة كل العوائق الجغرافية.
هاتان الميزتان هما أيضا مصدر قلق على العمل عبر العالم السيبراني. فعلى الرغم من الفوائد الكبيرة الناتجة عن تجمع الناس من كل بقاع الأرض في إطار واحة سيبرانية مشتركة، إلا أن ذلك يعطي لأصحاب النيات السيئة ميدانا فسيحا لتفعيل نياتهم في تحديات مختلفة الأساليب، لأمن كثير من الأعمال المفيدة. ويضاف إلى ذلك أيضا، التحديات الناتجة عن سوء استخدام العالم السيبراني، حتى مع توافر النيات الحسنة. ولا شك أن هناك دورا لثقافة الإنسان وخصائص المجتمع، ليس فقط في الحد من التحديات، وإنما في مواجهتها أيضا.
تعد مسألة الثقافة والمجتمع في مجال حماية أمن العالم السيبراني من القضايا المؤثرة التي ينبغي الاهتمام بها. ووردت هذه المسألة كبعد ضمن خمسة أبعاد متكاملة ومؤثرة في حماية الأمن السيبراني. جاء ذلك في نموذج خاص بهذا الأمن طرحته جامعة أكسفورد البريطانية العريقة في 2021، وتحدثنا عنه في مقالات سابقة. وطبقا لهذا النموذج، تشمل أبعاد الأمن السيبراني على مستوى الدول، بعد استراتيجية وسياسات الأمن السيبراني الذي تحدثنا عنه في المقال السابق، وبعد الثقافة والمجتمع، ثم بعد بناء المعرفة والقدرات البشرية، وبعد العوامل التنظيمية والقانونية، إضافة إلى بعد معايير وتقنيات حماية هذا الأمن". وسنناقش فيما يلي متطلبات الثقافة والمجتمع، وسنستند في ذلك إلى معطيات هذا النموذج.
يتضمن بعد الثقافة والمجتمع خمسة عوامل رئيسة تشمل التالي، عقلية الإنسان تجاه المخاطر الواقعة على الأعمال والنشاطات القائمة عبر العالم السيبراني، ومسألة الثقة بالتعاملات والخدمات المقدمة عبر هذا العالم، ثم استيعاب متطلبات الحماية، والقيام بالإبلاغ عن التحديات من أجل مقاومتها، إضافة إلى الاستفادة من دور الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي في الحماية المنشودة. وسنناقش في التالي كلا من هذه العوامل، والمتطلبات المرتبطة بها.
إذا بدأنا بالعامل الأول، أي عقلية الإنسان تجاه المخاطر، نجد أن على كل إنسان أن يدرك أهمية المخاطر إدراكا عمليا يوجهه نحو سلوك الحماية المناسب تجاهها. وهناك ثلاثة جوانب رئيسة لهذا الأمر، لكل منها متطلبات ينبغي أخذها في الحسبان. أول هذه الجوانب هو توعية أبناء المجتمع المستخدمين للعالم السيبراني بالمخاطر التي يواجهها هذا العالم. أما الجانب الثاني، فيتقدم خطوة إلى الأمام ويركز على مستوى المؤسسات الحكومية ومؤسسات القطاع الخاص التي تقدم خدمات سيبرانية وتستفيد منها، ويهتم بضرورة إدراكها أهمية أولوية الأمن في تنفيذ تعاملات العالم السيبراني. ثم يأخذ الجانب الثالث خطوة أخرى إلى الأمام، لينظر في تنفيذ كل من المستخدمين، وكذلك المؤسسات لمتطلبات حماية الأمن السيبراني.
ونأتي إلى العامل الثاني الخاص بالثقة بالتعاملات والخدمات المقدمة عبر العالم السيبراني. وترتبط هذه الثقة بجوانب مختلفة تؤثر وتتأثر بها. يرتبط أول هذه الجوانب بمستوى قدرة المستخدمين على التقييم الأمني السليم لمختلف النشاطات الجارية في العالم السيبراني. ويتعلق الجانب الثاني بمدى ثقة المستخدمين بالمعلومات المتلقاة عبر العالم السيبراني. ويهتم الجانب الثالث بمسألة التمييز بين المستخدمين والكشف عن هذا التمييز، والحد منه، منعا للمشكلات والتحديات التي قد تنتج عنه. ثم يركز الجانب الرابع على الاهتمام بمدى الثقة بالخدمات الحكومية عبر العالم السيبراني، ويكمل الجانب الخامس هذا الأمر بالاهتمام بمدى الثقة بخدمات مؤسسات القطاع الخاص عبر هذا العالم أيضا.
ونصل إلى العامل الثالث من عوامل دور الثقافة والمجتمع في حماية العالم السيبراني، وهو العامل الخاص باستيعاب جميع أصحاب العلاقة القائمين على الخدمات عبر العالم السيبراني، وكذلك المستخدمين لمتطلبات حماية هذا العالم، ولأهمية الخصوصية في المعلومات المتداولة عبره. ويبرز العامل الرابع بعد ذلك، موضوع إبلاغ المستخدمين للسلطات المختصة عما يرونه من اختراقات للأمن السيبراني، مثل جرائم المعلوماتية، والاحتيال، والغش، وانتهاك الخصوصية، وتحدي براءة الأطفال، وغير ذلك. ويأتي العامل الخامس أخيرا ليدعو إلى الاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي المطروحة على العالم السيبراني في الدعوة إلى حماية أمن هذا العالم، وطرح المعلومات التي يحتاج إليها الجميع في سبيل ذلك.
لا شك أن استخدامنا للعالم السيبراني واعتمادنا المتنامي على خدماته، يستدعي اكتسابنا، ليس فقط ثقافة استخدامه، بل ثقافة أمنه أيضا. وتتطلب هذه الثقافة، إدراكا من كل فرد أن عليه حماية ذاته، وأن عليه الإسهام في حماية المؤسسة التي يرتبط بها، وحماية المجتمع من حوله، فضلا عن حماية العالم السيبراني بأسره أيضا.