مفاوضات النووي .. طهران تضع العربة أمام الحصان

مفاوضات النووي .. طهران تضع العربة أمام الحصان
البحث عن صفقة تمنح إيران كل شيء دون أن تقدم هي أي شيء.

استهدف الحرس الثوري الإيراني، نهاية الأسبوع الماضي، مدينة أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق، بمجموعة من الصواريخ الباليستية، بذريعة تدمير "مركز استراتيجي إسرائيلي" سري في المنطقة، في سابقة من نوعها، اعتبرت خروجا عن أسلوب تحريك الوكلاء المحليين، للعمل نيابة عن إيران، المفضل لدى النظام في طهران. واقعة أثارت أكثر من سؤال حول جرأة إيران هذه المرة، ودوافع إعلانها، منذ الوهلة الأولى وبشكل علني، المسؤولية عن الأمر بلا تنصل أو مماطلة، كما جرت العادة في ذلك.
يتطلب فهم الحادثة، قراءتها في سياق تطور المفاوضات بشأن الملف النووي الإيراني، وفي ضوء مجريات الحرب الروسية الأوكرانية، التي انعكست آثارها بشكل بين على أسواق الطاقة العالمية، بعد دخول العقوبات الغربية، على موسكو حيز التنفيذ، بسبب الحرب. معطيات ولدت لدى رجال المرشد شعورا بأن طهران توشك أن تصبح منقذة العالم من أزمة طاقية عالمية، ما يعني أن المعسكر الغربي مجبر على إيجاد سبيل لضمان تدفق النفط الإيراني إلى السوق الدولية.
وتم ترجيح هذه الفرضية عندما كانت التوقعات تتحدث عن إمكانية التوصل إلى اتفاق جديد حول الملف النووي الإيراني أواخر شباط (فبراير) الماضي، قبل أن يدخل المسار التفاوضي حالة فراغ، عقب عودة علي باقري كني كبير المفاوضين الإيرانيين إلى طهران من أجل التشاور فيما يتعلق بالقرار الحاسم في البعد السياسي، كما صرح بذلك لوسائل الإعلام، التي تزامنت مع بدء العمليات العسكرية الروسية داخل أوكرانيا.
خطوات إيران اللاحقة تكذب كلام كبير المفاوضين، فما إن اقتنع العالم بأن بث الروح في الاتفاق النووي بات مسألة أيام فقط، حتى ولت طهران الأدبار بدعوى زائفة وغير منطقية. ترى إيران في الحرب فرصة ذهبية، لضمان أكبر قدر من المكاسب نظير أقل قدر من التنازلات، فلدى نظام المرشد قناعة مفادها أن العالم لن ينعم بالاستقرار ما لم تعوض إيران روسيا في أسواق الطاقة.
على هذا الأساس، لا ضير أن تعيد إيران ترتيب أوراقها وفق مصالحها، وتضغط قدر المستطاع، لتوسيع دائرة الخطوط الحمراء في متن الاتفاق المقبل. هكذا إذن تطالب إيران الدول الغربية برفع الحرس الثوري الإيراني من قائمة الإرهاب، وتتنصل من الالتزام بخفض التصعيد في المنطقة، وما هجوم الأسبوع الماضي على مدينة أربيل العراقية سوى رسالة مضمرة، في هذا السياق، إلى من يهمه الأمر.
مطالب إيران قبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية غير مطالبها بعده، فالظاهر أن طهران تريد الحصول على كل شيء، عودة واشنطن إلى الاتفاق، ورفع العقوبات الاقتصادية عنها، مع ضمان تدفق الأموال وحل المشكلات مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، علاوة على طمس التحقيقات في ملف الأنشطة النووية غير المعلنة. نظير ذلك لا تريد أو بالأحرى لا ترغب في تقديم أي تنازلات. وتصر، على الرغم من ذلك، على تقديم نفسها في صورة الضحية، فلا مسؤولية لها في تعطيل إحياء الاتفاق النووي.
داخليا، سوق النظام الإيراني المناورة التي يقدم عليها بمنزلة انتصار مؤزر، فسعي الغرب، بحسب المسؤولين الإيرانيين، إلى توقيع اتفاق نووي جديد، خير دليل على قوة ومركزية إيران في معادلة المنطقة. لكن هذا الكلام بات بلا تأثير في الداخل الإيراني، فالشعب يدرك جيدا موازين القوى في معادلة ليس بعيدة عنه، بعدما وجد نفسه محشورا قسرا وبالإكراه، فهو المتضرر الأول من سياسة العقوبات الاقتصادية.
الدعاية الكاذبة آخر أوراق لعب النظام في طهران، وقد تكررت قبل أيام فقط، في واقعة الصفقة الإيرانية البريطانية للإفراج عن نازنين زاغري الصحافية البريطانية الإيرانية، بالحديث عن إفراج مقابل 500 مليون دولار نقدا، فيما الحقيقة أن المبلغ من أموال إيران المجمدة، ووضع في حساب خاص لشراء السلع. مقايضة كافية للكشف عن درجة الهشاشة، ومستوى الأزمة داخل "الدولة القوية"، إطلاق سراح مقابل مواد تموينية.
القصة لا تنتهي عند هذا الحد، فالأخبار تفيد بأن نازنين زاغري من ذوي الجنسيات المزدوجة، ما يعني أن الحكام في طهران حولوا المواطنين الإيرانيين إلى رهائن لابتزاز الغرب ومساومته بهم. وفي تفاصيل هذه الصحافية أكثر من مؤشر على ذلك، فالسيدة كانت معتقلة منذ 2016، بتهم من قبيل "بث دعايات مغرضة للنظام" و"التعاون مع مؤسسات إعلامية للقيام بمشاريع تثير الشكوك"، ليحكم عليها بالسجن بعدها بتهمة التجسس. يبقى المثير فعلا أن النظام قرر بعد انقضاء محكومية زاغري إضافة عام آخر إلى حكمها السابق، بتهمة جديدة، وذلك من أجل الإبقاء عليها رهينة لانتهاء المفاوضات مع بريطانيا بشأن الأموال.
ماذا ينتظر العالم إذن من نظام يعامل مواطنيه بهذه الطريقة؟ وهل يعقل أن تراوده علامات الاستغراب والتعجب مما قد يصدر من طهران بشأن الملف النووي من مناورات تارة وشروط تعجيزية تارة أخرى، بحثا عن صفقة تمنح إيران كل شيء دون أن تقدم هي أي شيء. إنه الجنون بعينه، حين يرتدي عباءة السياسة ويتدثر بردائها.

الأكثر قراءة