«الحياد المحسوب» بين موسكو وبكين

«الحياد المحسوب» بين موسكو وبكين
الموقف الصيني من الحرب الروسية الأوكرانية سيعزز البراغماتية في السياسة الخارجية الصينية.

يزيد استمرار الحرب الروسية الأوكرانية من تأزيم وضع الصين التي تحاول جاهدة تحقيق معادلة صعبة، فهي تكافح لحماية مصالحها القوية وشراكتها الاستراتيجية مع روسيا، وتحرص في المقابل على الالتزام بقواعد وأعراف النظام الدولي، وذلك لأجل الاستفادة من علاقاتها الاقتصادية الضخمة مع دول المعسكر الغربي، ما جعل الموقف الصيني من الهجوم الروسي على أوكرانيا "رماديا" في نظر عدد من المراقبين.
فقبل ثلاثة أسابيع من الهجوم الروسي على أوكرانيا، وعلى هامش افتتاح الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين، توافق الزعيمان الصيني والروسي، بتاريخ الرابع من شباط (فبراير) الماضي، على معالم تعاون استراتيجي، يؤسس لـ"شراكة بلا حدود" بين الدولتين، قوامها تجاوزه الإرث التاريخي بدعوة "الناتو" إلى التخلي عن نهج "الحرب الباردة"، والسعي الحثيث نحو إنشاء "نظام عالمي مختلف".
شراكة لا يتوقع أن تكون على حساب شعار السياسة الخارجية الصينية، فمبدأ "احترام وحدة وسيادة الدول" ضابط أساسي في توجيه بوصلة الدبلوماسية الصينية. ما يعني أن الموقف الصيني لن يذهب بعيدا في دعم روسيا، لأنه مقيد بهذا المبدأ المرتبط بسياسة "الصين الواحدة" التي ترفض من خلاله انفصال تايوان. وكانت بكين قد التزمت به عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية، وتجدد الآن عقب إعلان انفصال إقليمي دونيتسك ولوهانسك.
تحاول الصين إذن الحفاظ على "توازن صعب"، فهي تؤكد احترامها وحدة أراضي جميع الدول، وهو العرف السائد في السياسة الخارجية لبكين. لكنها في الوقت نفسه تعد مخاوف روسيا الأمنية حيال توسع "الناتو" في شرق أوروبا مشروعة. لذلك تجنبت إدانة التدخل الروسي في أوكرانيا، وعدت الأمر "عملية عسكرية خاصة". لذا امتنعت عن التصويت، في مجلس الأمن وكذا الجمعية العامة للأمم المتحدة، على قرار أممي ضد روسيا، ما يمثل مؤشرا على محاولتها تحقيق التوازن بين مصالحها المتضاربة.
رسميا، تظهر الصين في موقع المحايد من الأزمة الروسية الأوكرانية، وإن كانت من الناحية الاستراتيجية تقف في الخندق نفسه مع موسكو في مواجهة المعسكر الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية. لذا لا يتردد الإعلام الصيني في انتقاد الولايات المتحدة الأمريكية، ويعد واشنطن والاتحاد الأوروبي، وليس روسيا، هما السبب في الصراع الروسي الأوكراني، وأنهما يذكيانه بإرسال الدعم العسكري لأوكرانيا، وفرض العقوبات على روسيا.
تصر الصين على التزام الحياد رغم تكلفته الباهظة، كلما طال أمد الحرب، فالوضع متداخل بشكل عميق بالنسبة إلى بكين، بين ما هو استراتيجي وما هو مبدئي، دون إغفال المصالح الاقتصادية والتجارية المتشابكة مع هذا الطرف أو ذاك، كما أن الصين تراهن بقوة على نتائج الحرب، لتعزيز موقعها ضمن خرائط القوة والنفوذ التي ستتمخض عنها.
لكن هذا الرهان تضبطه بكين بحسابات خاصة، فرغم نجاح موسكو في توجيه أنظار واشنطن نحو أوروبا بدل منطقة المحيطين الهندي والهادئ، فالصين لن تذهب بعيدا في دعم روسيا بالتورط في مغامرات بوتين الحربية، لأن الحرب من الناحية الاستراتيجية لا تخدم إطلاقا الصين، لانعكاسها المباشر على سلاسل التوريد العالمية، علاوة على عرقلتها التمدد الاقتصادي الصيني في العالم.
إطلالة سريعة على الأرقام والبيانات تؤكد ما سبق، فالصين الشريك الأول لأوكرانيا المعنية الأولى بهذه الحرب، ومعها الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الأول للصين، فتقرير 2021 الصادر عن هيئة الجمارك الصينية، يفيد بأن حجم التبادل التجاري بين دول الاتحاد الأوروبي والصين في ارتفاع، حيث بلغ 828 مليار دولار، نحو 2/3 منها صادرات صينية "518 مليار دولار"، مقابل 310 مليارات دولار قيمة الواردات الأوروبية. فيما تعد الولايات المتحدة ثاني أكبر شريك تجاري للصين، وفق التقرير ذاته، بحجم تجارة بلغ العام الماضي 756 مليار دولار، منها 576 مليارا صادرات صينية، مقابل 180 مليارا من الواردات الأمريكية. أرقام كبيرة لا تقارن بتلك التي يسجلها التبادل التجاري بين بكين وموسكو، حيث حقق عن العام ذاته نحو 146 مليار دولار، منها 67 مليارا قيمة الصادرات الصينية، مقابل واردات روسية بقيمة 79 مليار دولار، أغلبها من النفط والغاز الطبيعي.
تحدث مراقبون، خلال الأيام الأولى من اندلاع الحرب، عن أن الصين ستكون الرابح الأكبر من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. لكن المعطيات على أرض الواقع تقول العكس تماما، فتعويل روسيا على الصين لتعويض العقوبات الغربية، استنادا إلى الشراكة الاستراتيجية بين الدولتين، أضحى محل اختبار شديد، بعد تضاؤل فرص النصر العسكري الروسي الحاسم، ما منح الأصوات القريبة من دوائر الحكم في الصين، المتحفظة على هذه الخطوة، مشروعية أكبر. فهؤلاء يخشون أن تحول واشنطن الأزمة إلى فرصة تستهدف من خلالها الصين وروسيا بشكل متزامن، ما يسمح لها بإسقاط أكبر تهديدين لزعامتها على العالم بضربة واحدة.
علاوة على لغة الأرقام وحسابات الاقتصاد، يستند الرافضون للدعم الصيني لروسيا، وبالتالي توريط بكين في صراع أكبر مع الغرب، إلى تعزيز موقفهم على المبادئ الرئيسة الثلاثة التي شكلت حجر الزاوية في سياسة الصين الخارجية، خلال العقود الماضية، وهي: مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، ومبدأ الحرص على حماية الأمن والاستقرار، ومبدأ رفض اللجوء إلى القوة في السياسة الدولية.
وجدت الصين نفسها في موقف لا تحسد عليه، مع اشتداد المعارك دون ملامح تهدئة في الأفق القريب، فالمنطقة الرمادية التي اختارت التموقع فيها باتت تضيق بعد كل يوم حرب جديد، على المستوى الاقتصادي، مع توالي الهزات التي يتلقاها الاقتصاد الصيني، وعلى الجبهة الاستراتيجية، سيجعل الانكسار الروسي في الحرب من الصين هدفا مقبلا للغرب المتوجس أصلا من القوة الاقتصادية الصينية.
لا شك أن الموقف الصيني من الحرب الروسية الأوكرانية سيعزز البراجماتية في السياسة الخارجية الصينية، ويدفعها إلى مراجعة حساباتها، في ضوء ردود الفعل الغربية والدولية التي واكبت هذه الحرب. ما يعني استبعاد أي سيناريو أو مغامرة صينية لغزو تايوان في المنظور القريب.

الأكثر قراءة