باكستان وسحب الثقة .. تكرار لفصول سابقة
واجه عمران خان - الذي أجبر على ترك منصبه - مصير أسلافه، فقد اضطر الأحد إلى ترك منصبه كرئيس للوزراء قبل انتهاء ولايته بصورة تضررت من مناوراته السياسية وخطابه المثير للجدل.
لم يكمل أي رئيس وزراء ولايته في باكستان، ولم يشكل هذا النجم الرياضي السابق البالغ من العمر 69 عاما استثناء، وقد أطيح به بموجب مذكرة لحجب الثقة تم التصويت عليها في الجمعية الوطنية، بعدما قام بكل شيء لتأجيل هذا الأمر المحتوم.
واعتقد خان أنه نجا من هذا المصير قبل ستة أيام، عبر حصوله على عدم طرح المذكرة على التصويت وأن يتم حل المجلس، لكن المحكمة العليا قضت بأن كل هذه العملية غير دستورية، وأعادت عمل الجمعية الوطنية وأمرت بأن تمضي في تصويت على مذكرة حجب الثقة، التي خسرها خان بعدما تخلى عنه حلفاؤه قبل عدة أيام.
انطلقت فصول هذه الأزمة، القديمة - الجديدة، لكونها مجرد تكرار لفصول تاريخية سابقة، تكاد تكون شبه ثابتة، طيلة 75 عاما من عمر باكستان، عقب إعلان أحزاب المعارضة امتلاكها الأغلبية "172/342 صوتا"، للتصويت على مشروع يقضي بسحب الثقة من عمران خان رئيس الوزراء. ووجهت هذه الخطوة بالرفض من جانب نائب رئيس البرلمان، أعقبها مباشرة خطاب تلفازي لعمران خان رئيس الحكومة، تحدث فيه عن وجود "تدخل خارجي" في مؤسسات الدولة، كاشفا فحوى تواصله مع الرئيس، "أرسلت نصيحة إلى الرئيس بحل الجمعية، سنجري انتخابات ونترك الأمة تقرر".
قدم عمران خان إلى السياسة من عالم الرياضة، فهو لاعب كريكيت، صنع تتويج بلاده 1992 بكأس العالم لهذه الرياضة، انتخب رئيسا للوزراء أواسط 2018، عندما قدم نفسه على أنه رجل قومي يعمل على محاربة الفساد، وإنعاش الاقتصاد المتعثر في البلاد، والحفاظ على سياسة خارجية مستقلة. استغل الرجل شهرته بذكاء في مجال السياسة، فصنع لحزبه الفتي "حركة الإنصاف الباكستانية" (1996) امتدادا جماهيريا، بفضل خطاب سياسي شعبوي، أساسه مواجهة واشنطن والفكاك من التبعية لمعسكر الغرب.
اختارت المعارضة اللعب بورقة سحب الثقة، على خلفية أزمات البلاد الاقتصادية، التي تدفع بالبلاد نحو المجهول، فعمدت - على سبيل المثال - إلى مقارنة الأوضاع بجارتها الهند، خلال الفترة ما بين 2020 و2022، حيث بلغ تضخم أسعار المواد الغذائية فيها نحو 7 في المائة، بينما قفزت النسبة في باكستان إلى نحو 23 في المائة، علاوة على تزايد العجز التجاري المدفوع بفواتير الواردات المتزايدة باستمرار أمام تراجع الصادرات، حتى باتت الدولة تسجل - بحسب بنك التنمية الآسيوي - واحدا من أدنى نسب التجارة إلى الناتج المحلي الإجمالي في العالم.
إلى جانب تحفظها على سياسة عمران الخارجية، فالرجل الذي تولى الحكم في خضم توترات مع واشنطن، على خلفية اتهام الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترمب إسلام أباد بعدم الجدية في مكافحة الإرهاب، وتجميد زهاء 255 مليون دولار من المساعدات العسكرية الأمريكية السنوية المقدمة إلى باكستان، لم يفوت الفرصة دون تصعيد ضد واشنطن، بدءا برفض السماح للولايات المتحدة الأمريكية بإنشاء قاعدة عسكرية في باكستان، مرورا بالاحتفال بعودة "طالبان" إلى الحكم، معتبرا تغيير النظام مرادفا لنجاح الأفغان في "كسر قيود العبودية"، وصولا إلى انتقاده المباشر، في كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في آذار (مارس) الماضي، ضغط الدبلوماسيين الغربيين على الدول لإدانة حرب روسيا، "ما رأيكم فينا؟ هل نحن عبيدكم؟ وكل ما تقولونه سنفعله".
تاريخيا، كانت باكستان حليفا تقليديا لواشنطن في مواجهة التحالف الهندي - السوفياتي، قبل انقلاب الأوضاع بداية التسعينيات، بعد اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية نحو الهند، ما انعكس على تحالفها مع باكستان. مثل ذلك هدية ثمينة لموسكو وبكين لضم إسلام أباد إلى صفهما، وتحقق ذلك للصين التي أوقعت باكستان في فخ الديون، نتيجة الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان CPEC. أما روسيا فنجحت في جعل باكستان عضوا في "منظمة معاهدة الأمن الجماعي"، الحلف السياسي العسكري المكون من روسيا وبيلاروسيا وكازخستان وطاجكستان وقرغيزستان وأرمينيا.
لا يتردد خان، على هذا الأساس، في اتهام واشنطن بالسعي إلى الإطاحة به، لأنه يرفض الاصطفاف مع مواقفها حيال روسيا والصين. وتحدث الرئيس عن امتلاكه وثائق تثبت تورط واشنطن في دعم المعارضة الباكستانية للإقدام على خطوة سحب الثقة منه، فيما أفادت مصادر إعلامية محلية بأن خان تلقى تقريرا من سفير باكستان في واشنطن، سجل لقاء مع موظف أمريكي رفيع المستوى، قال له "إن علاقات الدولتين ستكون أفضل في حال مغادرة رئيس الوزراء منصبه".
امتدت معارك الرئيس إلى الجيش، تلك المؤسسة التي تتولى هندسة الحياة السياسية في الدولة من 1947، فهي التي تنهض بالسياسة الخارجية وضبط خريطة التحالفات، وفق مصالح أفرادها لا مصالح الدولة. كانت باكستان مسرحا لأربعة انقلابات عسكرية، بجانب عديد من المحاولات الفاشلة، وقضت أزيد من ثلاثة عقود تحت الحكم العسكري، وتمتع الجنرالات بسلطات هائلة، حتى في ظل الحكومات المدنية.
اشتبك الطرفان في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، لحظة رفض خان التوقيع على قرار تعيين قيادة الجيش لرئيس جديد للاستخبارات بدل الجنرال فايز حميد الموالي المحسوب عليه. وتجدد الأمر هذه الأيام، باختلاف مواقف قيادة الجيش عن رئاسة الحكومة، بشأن الحرب الروسية في أوكرانيا، فالجنرال قمر جاويد باجوا يدين بشكل واضح العملية العسكرية الروسية، في وقت يدعم فيه خان روسيا ضدا على الولايات المتحدة الأمريكية.
أيا يكن السبب "الاقتصاد، السياسة الخارجية، المؤسسة العسكرية..." وراء الأزمة السياسة في باكستان، يبقى عمران خان حدقا في إدارة أزمة سحب الثقة التي تتكرر في البلاد كل 15 عاما، فهذه ثالث مرة يتعرض فيها رئيس وزراء باكستان لسحب الثقة، بعد بينظير بوتو 1989، وشوكت عزيز 2006.
أيا كان الشخص الذي سيتولى رئاسة الحكومة في باكستان خلفا لعمران خان الذي أقيل الأحد، فإنه سيرث المشكلات نفسها التي عرقلت مسيرة نجم الكريكيت الدولي السابق.
وسيكون على رأس جدول أعمال الإدارة الباكستانية القادمة مواجهة أزمة اقتصادية كبيرة، إضافة إلى تصاعد الحركات المتشددة والعلاقات المتدهورة مع الحلفاء السابقين.