اندلاع الحروب .. انفجار ذاتي للتاريخ
إن من المفترض أن يفهم الفلاسفة الأحداث والظواهر من وجهة نظر منفصلة إلى حد ما، مع الأخذ في الحسبان نماذج نظرية وسوابق مفيدة، "لكن الوضع في أوكرانيا قد جعل الانفصال صعبا بالنسبة لي"، يقول مايكل ماردر، أستاذ أبحاث الفلسفة في جامعة إقليم الباسك، وهو مؤلف "الفلسفة القادمة" (مطبعة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، 2022).
وهذا لا يعود فقط لأن أكثر من نصف عائلتي يتحدرون من أوكرانيا - يضيف ماردو - لكن أيضا لأنني كنت دائما منشغلا - فلسفيا وشخصيا - بقضية التهديدات النووية والإشعاعية التي تتركز على محطة تشرنوبل للطاقة واستخدام الأسلحة النووية.
لكن مهما يكن من أمر فإن الظروف تتطلب التفكير الواضح، وكما جادلت في كتابي لعام 2021 "حواس الاضطراب" في فصل بعنوان "الانهيار غير المكتمل للاتحاد السوفياتي"، فنحن بحاجة إلى تطوير "فلسفة قوية للتاريخ" قادرة على أن تأخذ في الحسبان "الفجوات التاريخية، والعمليات الكامنة المطولة، والفترات الزمنية الفاصلة بين الأسباب والتأثيرات".
إن الطبيعة الملحة لتلك المهمة قد أصبحت واضحة بشكل مؤلم، فالذي نشهده حاليا هو نتيجة للفترة الزمنية الفاصلة بين النهاية الرسمية للاتحاد السوفياتي 1991 وبين موروثاته التي لم تحل بعد. إن تلك الموروثات مسؤولة ليس فقط عن الحرب في أوكرانيا، بل أيضا عن النزاع المحتدم بين أرمينيا وأذربيجان في ناغرنو - كاراباخ، وعن المصير المأساوي لبيلاروسيا، كما يظهر باستمرار في خلفية المشهد، الترسانة النووية السوفياتية، التي وافقت أوكرانيا على نقلها إلى روسيا بعد فترة وجيزة من إعلانها كدولة مستقلة.
لكن التداعيات التاريخية لحرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أوكرانيا هي أكثر تعقيدا من الإرث الذي لا يزال غير محدد من الانهيار السوفياتي، وبالنسبة إلى المراقبين الأوروبيين فإن التدخل الروسي هو بمنزلة تذكير بسلوك ألمانيا 1939، وبالنسبة إلى الأوكرانيين أنفسهم فإن هذا الغزو يستدعي ذكريات تتعلق بكوارث وطنية سابقة، وذلك من مجاعة هولودومور 1932 - 1933 والحرب العالمية الثانية، إلى كابوس كارثة تشرنوبل 1986، وبالنسبة إلى الروس فإن تشديد الرقابة وغيرها من الإجراءات القمعية الداخلية قد أيقظت ذكريات الستالينية.
لكن هذا لا يتعلق بمقولة "التاريخ يعيد نفسه"، فالتكرار يتطلب أن تكون هناك دورية وإيقاعات زمنية محددة، علاوة على اكتمال كل ما يتكرر. ومع ذلك، فإن عديدا من القضايا الكامنة وراء حرب بوتين هي ذيول الأحداث السابقة غير المكتملة - من تفكك الاتحاد السوفياتي إلى الآثار الطويلة الأمد للتساقط الإشعاعي.
إن ما نشهده في أوكرانيا، إذن، هو تعثر الأحداث ببعضها بعضا، أي تقارب جداول زمنية مختلفة في ظاهرة مدمرة واحدة. تمتد جذور التدخل الروسي إلى الانهيار السوفياتي وكارثة تشرنوبل والحربين العالميتين، إضافة إلى الإبادة الجماعية في أوكرانيا والقمع الستاليني في ثلاثينيات القرن الماضي. كل هذا التاريخ يتركز ويتكثف في الحرب الحالية، مثلما يتم ضغط المادة الانشطارية للقنبلة الذرية فجأة إلى حجم أصغر وبالتالي كثافة أكبر. إن اندلاع الأعمال العدائية هو في جوهره انفجار ذاتي للتاريخ.
لقد تضمنت النماذج الكلاسيكية الثلاثة لشرح حركة التاريخ السقوط المحافظ الذي يتحسر على فقدان عظمة الماضي، إضافة إلى التقدم الليبرالي الذي يحتفل بالمسار التصاعدي لظروف المعيشة وحرية الإنسان، والنموذج الثالث هو التكرار الدوري "يقترن أحيانا بالنموذج الأول أو الثاني على شكل دوامة" للتدمير والتجديد "بالماء أو النار"، كما في كتاب أفلاطون تيماوس.
لكن الانفجار الذاتي يقدم خيارا رابعا، وهو خيار يستخدم أيضا الفيزياء لوصف تأرجح التاريخ تحت ثقل الموروثات التي لم يتم حلها، وبمعنى ما فإن النموذج الرابع يضم عناصر من النماذج الثلاثة الأخرى، ما يضع الرؤى المحافظة والليبرالية في مواجهة، إضافة إلى ظهور جوانب للتكرار بسبب قوة الجذب المركزي التي أطلقها الانفجار الذاتي، ولهذا السبب نسمع أصداء متزامنة عن "استعادة" الماضي الإمبراطوري المجيد لروسيا، وعن المسيرة "التي لا يمكن كبتها" نحو حرية السوق والديمقراطية في أوكرانيا والشعار الذي يتكرر بلا كلل أو ملل "التاريخ يعيد نفسه".
إن الانفجار الذاتي للتاريخ يتضح أيضا من خلال الأزمات البيئية التي نعيشها اليوم، فالانقراض الجماعي السادس الذي يجري حاليا ليس مجرد تكرار للخمسة السابقة، فهو أيضا يشير إلى الانهيار التاريخي للجنس البشري "مع عدد لا يحصى من الأنواع الأخرى" وفي عصر الأنثروبوسين كان هذا الانهيار من صنع الذات وبالتالي يحمل جميع علامات الانفجار الذاتي. تنبع كل من أزمة المناخ ونظام بوتين من اعتمادنا على الوقود الأحفوري، ما يشير إلى انتمائهم إلى النموذج التاريخي الأوسع نفسه.
إن السؤال الدائم في العمل السياسي هو "ما العمل؟" وهو سؤال لا يمكن أن يثار بجدية دون فهم تقريبي على أقل تقدير للسياق التاريخي. هل تشكل الحرب في أوكرانيا نكسة مؤقتة...، هل هي عقبة مؤقتة أمام استعادة الإمبراطورية الروسية، هل تبدلت الأدوار التي كانت سائدة في الحرب العالمية الثانية وأصبح المدافعون عن الوطن هم الآن المحتلون، أم أن هناك شيئا آخر يجري حاليا على الأراضي الأوكرانية في 2022؟
من سمات الانفجار الداخلي للتاريخ أنه يجتذب كل شيء وكل شخص إلى دوامة. إذا كانت الحرب في أوكرانيا علامة واضحة على هذا الانفجار الداخلي، فمن السذاجة الاعتقاد أن الأعمال العدائية التي تجري حاليا على الأراضي الأوكرانية ستقتصر على تلك المنطقة، حتى لو كان لا يزال من السابق لأوانه الحديث عن الحرب العالمية الثالثة.
إن وجود التهديد النووي في الصراع - بما في ذلك محطات الطاقة والأسلحة - هو أحد أعراض افتقار الصراع إلى القيود الزمنية والمكانية، ومثلما عدت أوروبا والولايات المتحدة في البداية مشكلة سارس - كوف - 2 مشكلة صحية إقليمية في الصين، فإن الموقف "الدفاعي" لحلف الناتو يتجاهل الآن التهديد العابر للحدود الوطنية المتمثل في التداعيات النووية أو استخدام الأسلحة البيولوجية أو الكيماوية.
كلما أسرعنا في فهم المنطق "أو اللا منطق" المتعلق بالانفجار الذاتي، تحسنت قدرتنا على فهم ما الذي يجب علينا عمله، فنحن الآن في نهاية حقبة تعطينا شعورا بأننا وصلنا إلى "نهاية التاريخ"، وحاليا يجب أن نكون على يقين، وكما قال بيرتولت بريخت "لأن الأشياء على ما هي عليه، فلن تبقى كما هي عليه".