ماكرون ضد لوبان .. مباراة إياب مختلفة

ماكرون ضد لوبان .. مباراة إياب مختلفة
خمسة أعوام رئاسية لم تمنح ماكرون مؤشرات كافية تجعله مطمئنا في التوجه نحو الدور الثاني بأريحية.

يتطلع الفرنسيون، ومعهم كثير من الأوروبيين، إلى مباراة إياب نوعية، في 24 نيسان (أبريل) الجاري، بين الرئيس إيمانويل ماكرون "الجمهورية إلى الأمام" الذي تصدر بعد حصوله على 28.1 في المائة من الأصوات، ومارين لوبان زعيمة "التجمع الوطني" اليمينية، صاحبة المركز الثاني بنسبة 23.3 في المائة من إجمالي الأصوات، في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية لاختيار الرئيس التاسع للجمهورية الفرنسية الخامسة.
تختلف محطة 2022 عن سابقتها 2017، حيث سبق للطرفين أن تواجها في جولة الإعادة، وحسم ماكرون النتيجة لمصلحته حينها، بعد نيله 66.1 في المائة من إجمالي الأصوات. لكن اليمين المتطرف الفرنسي لم يكن بمثل هذه القوة، فقد سجل 30.1 في المائة، بجمع أصوات المرشحين لوبان وزمور، في استحقاق تميز بنسبة امتناع مرتفعة عن التصويت، حتى قيل إن المركز الثاني كان من نصيب الممتنعين، بعد تسجيلهم 26.5 في المائة من الأصوات المعبر عنها.
علاوة على نسبة المقاطعة المرتفعة في الجولة الأولى، شهدت هذه الانتخابات خسارة تاريخية للحزبين اللذين تعاقبا على السلطة لعقود عديدة، الحزب الاشتراكي واليميني المحافظ الديجولي، بعد حصول آن هيدالجو مرشحة الأول على 2 في المائة، مقابل 5 في المائة لفاليري بيكريس مرشحة حزب "الجمهوريين"، ما ينذر بسقوط ثنائية العائلتين اليمينية واليسارية التي تنافسها على كرسي الإليزيه، مع تسجيل أفضلية لمصلحة اليمين خلال الجمهورية الخامسة، بتقلد أربعة رؤساء يمينيين الحكم "شارل ديجول، جورج بومبيدو، جاك شيراك، ونيكولا ساركوزي".
يمتد الاختلاف ليشمل سياق نزال الأحد المقبل، فالمواجهة الثانية تأتي أولا بعد نجاح واقعة طلاق بريطانيا والاتحاد الأوروبي، وتسعى قائدة "التجمع الوطني" التي ترفع في حملتها الانتخابية "لجميع الفرنسيين" إلى مراجعة جذرية لعلاقة باريس بالاتحاد الأوروبي. وثانيا، بعد خروج أنجيلا ميركل من المشهد السياسي الأوروبي، ما سيتيح للرئيس الفرنسي القادم فرصة تولي قمرة قيادة الاتحاد الأوروبي.
يبدو ماكرون واعيا بهذه المتغيرات في قرارة نفسه، فأداء خمسة أعوام في الرئاسة لم يمنحه ما يكفي من المؤشرات التي تجعه مطمئنا في التوجه، نحو الدور الثاني بأريحية، لأجل ذلك، لم يتوان عن مواجهة أنصاره بالحقيقة، منبها إلى مدى صعوبة المواجهة. فقد صرح عقب الإعلان عن النتائج بأنه "لم يحسم شيء بعد"، معتبرا "النقاش الذي سنخوضه طيلة 15 يوما سيكون حاسما بالنسبة إلى دولتنا وأوروبا".
يجمع الفرنسيون على أن أداء الرئيس الحالي لم يكن مقنعا، في كثير من القضايا والملفات، فشريحة واسعة تعده ممثلا للشركات الكبرى ورجال الأعمال، لا مدافعا عن مصالح الشعب والفئات الهشة، والدليل مواجهة الرجل بواحدة من أكبر الحركات الاحتجاجية في تاريخ فرنسا المعاصر "حركة السترات الصفر". دفع يتصدى له ماكرون بأكثر من ورقة رابحة في يده، فجائحة كرورنا التي هزت العالم من أقصاه إلى أقصاه، منحت الرجل هامشا من المناورة، بذريعة الظروف الطارئة، للتنصل من الوعود التي قطعها في ولايته الرئاسية. كما من شأن تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا وعواقبها على القارة الأوروبية أن تعزز من حظوظه، فالظرفية تستدعي الوحدة والتكتل والانسجام للبقاء والصمود.
علمت لوبان تجاوز أخطاء النزال السابقة، فطرحت برنامجا متكاملا قوامه أخطاء ونقائص ماكرون. بدل الوفاء للشركات الكبرى أعلنت -عكس توجهات والدها الداعم لأطروحة السوق الحرة - تبني حزبها للحمائية، وتنتصر لتطبيق سياسة "اشتر الفرنسي" في مجال المناقصات العامة. كما تعد بمراجعة المنظومة الضريبية، والعمل على إلغاء ضريبة الدخل لمن تقل أعمارهم عن 30 عاما، وخفض ضريبة القيمة المضافة على الطاقة إلى حدود 5.5 في المائة فقط، ومراجعة الأجور، بالأخص في قطاعي الصحة والتعليم بزيادة قدرها 15 في المائة، على مدى خمسة أعوام... وهلم جرا، من الالتزامات التي جعلت البرنامج الاقتصادي لحزبها أقرب ما يكون إلى اليسار.
أوروبيا، ينادي ماكرون بـ"الاستقلال الاستراتيجي" للاتحاد الأوروبي، بالتخلص التدريجي من الاعتماد على الغير في مجالات الدفاع والتكنولوجيا والطاقة، ويسعى إلى تعزيز مكانة الاتحاد الأوروبي دوليا، فطالب بإنشاء "ميتافيرس أوروبي" لمنافسة السيطرة الأمريكية. تبشر لوبان بنسخة كربونية لسياسة دونالد ترمب، بعدما تعهد بقطع المساهمات المالية لفرنسا في مؤسسات الاتحاد الأوروبي، وتميل إلى منح الأولوية للقانون الفرنسي على قواعد الاتحاد الأوروبي، ما سيضعها في صدام مباشر مع المحكمة العليا في النادي الأوروبي.
دوليا، أضفى الهجوم الروسي على أوكرانيا مصداقية على كثير من طروحات ماكرون، وأعاد التنسيق بين أعضاء النادي الحياة إلى فكرة الوحدة الأوروبية، لا بل إلى المحور الغربي بصفة عامة. لكن هذا لم يثن الرئيس عن فكرة المطالبة بالاستقلال العسكري والأمني الأوروبي، ما أوقعه في صدام مع ثلاثي واشنطن - لندن - أدنبرة، في واقعة الغواصات المعروفة. تحرص لوبان على تصيد أخطاء ماكرون واستغلالها بذكاء، فوصفت نفسها عند الحديث عن السياسة الخارجية لفرنسا بأنها "ديجولية"، نسبة إلى الزعيم شارل ديجول في زمن الحرب، معلنة أنها ستكون على مسافة متساوية من واشنطن وموسكو، لا بل إنها نددت بالهجوم الروسي على أوكرانيا، لكنها قالت "إن موسكو قد تكون حليفة مرة أخرى بعد الحرب".
إذا كان الأداء السياسي لماكرون مرجعا يحدد الفرنسيون وفقه حكمهم من زعيم حزب "الجمهورية إلى الأمام"، فإن علاقة لوبان الملتبسة بموسكو تبقى نقطة سوداء في سباقها نحو قصر الإليزيه، فقبل الحرب الأوكرانية كانت قائدة "التجمع الوطني" في شراكة متينة مع الرئيس فلاديمير بوتين، لدرجة أن حزبها حصل 2014 على قرض مصرفي من بنك روسيا، وكانت ضيفة في الكرملين، أسابيع قليلة، قبل الانتخابات الرئاسية السابقة.
يبدو أن حسم مواجهة الأحد المقبل في يد الخاسرين أكثر من الفائزين، فنصيب ماكرون ولوبان من الأصوات ظهر في الدور الأول، ليبقى الرهان في الدور الثاني على قدرة كل مرشح خاسر على إقناع أتباعه بالتصويت لأحد المتنافسين. لذا يمكن القول إن نزال الأحد سيكون في ملاعب الآخرين، لاستمالة أصوات أنصارهم، لا في ملعب المتنافسين.

الأكثر قراءة