الحلف الغربي وترجيح موازين القوى العالمية
تعيد الولايات المتحدة الأمريكية حساباتها لفرض هيمنتها على العالم بطرق ووسائل مختلفة، فيما تواجه دول معترضة تهديد الهيمنة الأمريكية، مثل روسيا وكوريا الشمالية، كما تصعد الصين بطريقة صامتة، لتأكيد ضمان عدم إعادة تصدير نظام القطب الواحد في العالم، بعد التحدي الكبير من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي صنع وضعية هشة في موازين القوى، بتنفيذه خطوة استباقية بالدخول العسكري إلى أوكرانيا، بحجة ضمان عدم انضمام كييف إلى حلف شمال الأطلسي "الناتو"، فيما تسعى واشنطن إلى وقف النمو الصيني، من البوابة الروسية بحجة أنها حليف لموسكو، للحد من صعودها الاقتصادي، بموازنة العلاقات، من خلال تحالف اقتصادي على غرار "الناتو"، لكن دخول هذا النوع من المواجهة في حاجة إلى تحالف متوافق بعيدا عن أي خلافات، وهذا ما وفره الدخول الروسي للأراضي الأوكرانية.
يعمل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لمصلحة بلاده في المقام الأول، لكنه، وبغير قصد، قدم خدمة جليلة إلى الولايات المتحدة لإعادة ترتيب أوراقها وتحالفاتها السياسية، خصوصا مع الحليف الأوروبي، فالعالم يختلف كثيرا عما قبل 24 فبراير الماضي وما بعده، فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وحد الغرب وأعاده إلى الخندق الواحد، بعد أن رسخ الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، حملة الفرقة الداخلية مع حلفاء بلاده في أوروبا و"الناتو"، بعد أن تعمد إحراجهم مرارا وتكرارا في مختلف المناسبات الدولية، التي طالما شهدت فرض رسوم اقتصادية على صادراتها إلى الولايات المتحدة، ومطالبتها بالدفع لـ"الناتو" مقابل حماية بلاده لهم.
ما قبل الحرب طفت الخلافات السياسية على السطح بين كبار أعضاء "الناتو"، قبل الدخول العسكري الروسي إلى أوكرانيا، وكانت الأزمات تتفاقم بين باريس من جهة وواشنطن ولندن من جهة أخرى، بعد أن قامت الحليفتان الأمريكية والإنجليزية بنزع اتفاقات عسكرية من باريس، تسببت لها في خسائر اقتصادية، كادت أن تكون مرابح إنتاج عسكري لولا دخولهما على الخط، ولم يقتصر الأمر على ذلك، فعلى بعد عشرات الكيلومترات من الحدود الفرنسية خسرت باريس صفقات بيع أسلحة مع دول أوروبية بعد مضاربة أمريكية على طريقة رعاة البقر "الكاوبوي"، فالتوتر الأمريكي الإنجليزي مع الحليف الفرنسي كان سببه خسارة باريس صفقات بيع غواصات حربية وطائرات مقاتلة، ليحل المنافس الأمريكي والبريطاني محلها في تلك الصفقات، بغواصات نووية وطائرات شبحية، تعود بمليارات الدولارات على الخزائن في واشنطن ولندن.
تزامنت أزمة صفقات بيع الأسلحة مع أزمة قوارب الصيد بين لندن وباريس، ولم تكن واشنطن في الوضع، الذي يمكنها من لعب دور الوساطة، واحتواء جميع الأطراف، لأنها طرف في نزع صفقات الأسلحة من باريس، كما أن هذه الأزمة لها حساسية كبيرة لأنها مرتبطة بتبعات انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ما تسبب في زيادة العبء على باريس وتركها وحدها في إدارة شؤون القارة العجوز، التي تعاني الأزمات بمختلف أشكالها وأنواعها، لكن أحلام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باستعادة أمجاد الاتحاد السوفياتي أعادت النبض إلى المشروع السيادي الأمريكي المتعلق بإعادة الهيمنة على العالم، وأعادت الوحدة نفسها إلى الدول الغربية لتقف في خندق واحد في صف واشنطن لمواجهة سياسات الرئيس الطموح، القريب جغرافيا منهم، لكنه بعيد معنويا.
نجحت واشنطن في توحيد المعسكر الغربي، وتجاوزت الدول الغربية خلافاتها فيما بينها، وتفرغت تماما لمواجهة التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، لكن كلا من هذه الدول تواجه موسكو من منطلق مصالحها، لكن نقطة الالتقاء تكمن في الإجراءات الرامية إلى تنويع مصادر الطاقة بعيدا عن الغاز الروسي، إضافة إلى القرار التوافقي باستبعاد عدد من المصارف الروسية من النظام المالي العالمي، إضافة إلى تعطيل معظم حركة النقل الجوي والبحري من روسيا وإليها، وأخيرا قرار الشركات الكبرى وقف أنشطتها في روسيا أو معها.
هذه التدابير والإجراءات الكبيرة عظيمة لخدمة المشروع الأمريكي الجديد، إلا أنها تنقصها اللمسة الواقعية على صعيد الدول الأوروبية خصوصا على المديين الزمنيين القريب والمتوسط، فالتنفيذ خلال فترة قصيرة شبه مستحيل، وهذا ما تعده دول أوروبية كألمانيا استنزافا لاقتصادها القائم على مصادر الطاقة القادمة من روسيا. فيما تواصل روسيا ضخ غازها إلى أوروبا، تحتفظ بالتلويح المستمر بقطع الإمدادات عنها في أي خطوة "متهورة" تتخذها الدول الأوروبية من الحرب في أوكرانيا، فيما تمارس واشنطن سياسات صفرية على مصالحها ضد موسكو، لكن أثرها كبير في دول أوروبية.
ستعيد هذه التطورات رسم معالم العلاقات القائمة في مناطق الشرق الأوسط والمتوسط وغرب البلقان وإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، كما ستؤثر في العمليات التي تنفذها أوروبا لمكافحة الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وفي شبكة اتفاقياتها المستندة إلى القيم، وربما حتى في توسيع الاتحاد الأوروبي في المستقبل، وقد يعمد الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة إلى تعزيز تعاونهما العسكري، من خلال رعاية أمريكية تقوم على التدريبات المشتركة أو حقوق إنشاء القواعد العسكرية أو التعاون في مجال مكافحة الإرهاب أو إنتاج المعدات العسكرية بشكل مشترك. لكن واشنطن التي انسحبت من سورية والعراق وأفغانستان، تسعى إلى استعادة هيمنتها على المنطقة مجددا بتوقيع اتفاق نووي مع إيران، فيما تعد بهذه الخطوة تناقض نفسها، بفتح الساحة أمام موسكو وحلفائها في طهران.
كما أدى التدخل الروسي في أوكرانيا إلى تعزيز وحدة الاتحاد الأوروبي بشكل كبير، ففي غضون أسبوعين، قرر الاتحاد الأوروبي اعتماد سياسة لتنويع مصادر الطاقة بعيدا عن روسيا، وأخرى بشأن مبيعات الأسلحة، والأهم أن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، ومن ضمنها الحكومات الأقرب إلى موسكو، بقيت موحدة في استجابتها للتدخل الروسي، وحسمت ألمانيا، في خلال أيام جدلا داخليا مستمرا لعقود بشأن زيادة التمويل العسكري، خصوصا أن إحدى أكبر القواعد العسكرية الأمريكية في أوروبا موجودة في ألمانيا، وأن أي صفقات شراء أسلحة ألمانية، ستكون الحصة الأكبر منها لأمريكا، لطبيعة دورها بأنها أكبر مصنع للأسلحة في العالم، كما أن الطريق معبد للنفوذ الأمريكي بعد تراجع النفوذ السياسي الذي تمارسه روسيا على أحزاب سياسية أوروبية، فيما انحسر التأييد الشعبي الأوروبي للأحزاب اليمينية المتطرفة، التي كانت تعد الرئيس الروسي مثالا يحتذى.
من المتوقع أن تزداد حدة المشاحنات بين أمريكا وحلفها الغربي وبين روسيا في الأمم المتحدة، وستضطر الدول غير الغربية إلى الانحياز إلى أحد الطرفين، وستزداد خطورة بعض المسائل وستتفاقم حروب المعلومات، خصوصا بعد توقف الحوار بين "الناتو" وروسيا، وانسحاب موسكو من اجتماعات مجلس أوروبا، ما يجعل موسكو وحيدة أمام أغلبية الدول الكبرى في العالم، فيما ستلتزم الصين الصمت لتمرير أجنداتها شيئا فشيئا.