القوة الناعمة لأوروبا .. إلى أين؟

القوة الناعمة لأوروبا .. إلى أين؟
أدت الحرب الثقافية الداخلية في أوروبا إلى تقويض قوتها الناعمة.
القوة الناعمة لأوروبا .. إلى أين؟

تظهر الأزمة الأوكرانية أن الاتحاد الأوروبي لديه مشكلة تتعلق بالقوة، فبينما كان التركيز أخيرا على عجزه المتعلق بالقوة الضاربة، فإن عيوبه الفلسفية والسياسية تشكل مصدر قلق أكبر، ونظرا إلى نقطة تحول السياسة الخارجية الألمانية والجدل الجاري حاليا في فنلندا والسويد فيما يتعلق بعضوية الناتو، وحجم تعهدات الإنفاق على إعادة التسليح الأوروبية، فإن من المرجح أن أوروبا ستحصل قريبا على موارد عسكرية أكثر من أي جهة أخرى باستثناء الولايات المتحدة الأمريكية، لكن حتى عندما يتحقق ذلك، ستبقى أوروبا تعاني مشكلة القوة الناعمة. بحسب مارك ليونارد، مدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، مؤلف "عصر السلام: كيف يسبب الاتصال الصراع"، (مطبعة بانتام، 2021).
أوروبا هي موطن لمشروعين من أجل بناء الهوية، علما بأن بقية دول العالم تشعر بالنفور الشديد منهما. لقد تم تمثيل كل منهما في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، حيث تمكن الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون من ضمان فترة رئاسية ثانية بعد هزيمة مارين لوبان القومية اليمينية المتطرفة.
لقد عمل ماكرون على تصوير الحملة على أنها اختيار لنوعية الحضارة التي تريدها فرنسا وأوروبا، حيث صور ماكرون بلاده على أنها التجسيد النهائي للفضيلة المدنية المستنيرة، فبالنسبة إليه "وإلى الأوروبيين" فإن المشروع الأوروبي هو محاولة مفصلة لتجاوز تاريخ القارة الدموي من القومية والإمبريالية والإبادة الجماعية. إن من المفترض أن يشكل الاتحاد الأوروبي هوية أوروبية جديدة مبنية على أساس المبادئ المدنية مثل القانون الدولي ضد "القوة تصنع الحق" والديمقراطية الليبرالية "ضد الأغلبية الشعبوية" والخصوصية ضد "رأسمالية المراقبة"، وحقوق الإنسان "ضد دولة المراقبة".
إن هذا المشروع يوحي بنوع جديد من الوطنية، وبقدر ما نجح هذا المشروع بقدر ما أثار ثورة مضادة من أولئك الذين يعتقدون أن العولمة والتكامل الأوروبي يهددان ثروتهم وثقافتهم ومكانتهم. إن لوبان تقدم نفسها على أنها منبر لهذه النسخة الجديدة-القديمة من الهوية الأوروبية. بوصف لوبان ماكرون بأنه يمثل الدمار الذي تجلبه العولمة الذي سيقود فرنسا وأوروبا إلى انتحار ثقافي، فإنها تدعي أنها تمثل المزارعين والعمال المنسيين والذين تم تهميش مصالحهم لفائدة النخب الاقتصادية واللاجئين.
لقد أدت الديناميكية الهيكلية للنظام الانتخابي الفرنسي إلى تصاعد العلاقة الجدلية بين هاتين النسختين من الهوية الأوروبية مع استبدال التنافس التقليدي بين يسار الوسط ويمين الوسط بالمواجهة بين القومية العرقية المسيحية والوطنية الدولية المدنية، لكن فرنسا ليست الدولة الوحيدة في هذا السياق، حيث يجد المرء انقسامات مماثلة في جميع أنحاء أوروبا. لقد حشدت الحركات من أجل "استعادة السيطرة" الناخبين ضد الانفتاح والعالمية اللتين على أساسهما تقوم الهوية الأوروبية الجديدة.
لقد أدت الحرب الثقافية الداخلية في أوروبا إلى تقويض قوتها الناعمة. يصور الاتحاد الأوروبي نفسه على أنه مثال يحتذى في دعم الديمقراطية ومع ذلك فإن عديدا من أكبر الديمقراطيات في العالم - البرازيل والهند وإندونيسيا وجنوب إفريقيا - كانت مترددة في الوقوف معه فيما يتعلق بأوكرانيا. لقد أسهمت جميع تلك الهويات المتصارعة في أوروبا في هذه الخسارة للدعم العالمي.
إن المشكلة مع اليمين الأوروبي المتطرف واضحة، فعلى الرغم من استحضار لوبان القيم الدينية والتقليدية، إلا أن أفكارها المتعلقة برهاب الأجانب ورهاب الإسلام والتفوق الضمني للبيض أدت إلى نفور جزء كبير من سكان العالم منها بما في ذلك 1.9 مليار مسلم. إن الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن المحاولات التي يقوم بها الدوليون مثل ماكرون لتطوير هوية مدنية قد قللت في بعض الأحيان كذلك من جاذبية أوروبا في أجزاء كثيرة من العالم. إن تصور ماكرون لأوروبا يدعم المساواة بين الجنسين وحقوق الأقليات والعمل البيئي، لكن هذا التصور يبدو راغبا وبشكل متزايد في إخضاع السلطة السيادية لمقتضيات الأسواق والمبادئ والمؤسسات العابرة للحدود.
لقد كان من الطبيعي أن تكون هناك اتهامات لتلك الأولويات الجديدة بالنفاق، فعديد من تلك الدول التي أغلقت أبوابها خلال أزمة اللاجئين السوريين 2015، ترحب الآن بحرارة وبشكل مفتوح باللاجئين الشقر أصحاب العيون الزرقاء الذين يفرون من أوكرانيا.
وكما لاحظ عديد من الحاضرين في منتدى الدوحة لهذا العام، فإن التزام الغرب بمبدأ السيادة في أوكرانيا يبدو أجوف إلى حد ما، بعد أعوام من قيام طائرات غربية بدون طيار بالتحليق في سماء باكستان وأفغانستان. أليست تلك الدول هي الدول نفسها التي غيرت الحدود الدولية في كوسوفو وأطاحت بمعمر القذافي في ليبيا وغزت العراق؟ علاوة على ذلك وبعد اغتصاب الكوكب لعدة قرون قررت أوروبا الآن أن تقدم نفسها على أنها نصيرة للتخفيف من آثار التغير المناخي وحماية البيئة.
إن الأكثر إثارة لمشاعر عدم الرضا هو الطريقة التي يميل بها الأوروبيون إلى تعميم تجربتهم على مستوى العالم، مفترضين في كثير من الأحيان أن ما هو مناسب لهم هو مناسب لغيرهم. "على سبيل المثال فإن نموذج توسيع الاتحاد الأوروبي يتطلب من الدول الأخرى تبني كتاب قواعد يتضمن 80 ألف صفحة". لقد اختارت معظم المجتمعات الأوروبية - لأسباب تاريخية مختلفة - التوازن بين ديمقراطية الأغلبية وحقوق الأقليات والملكية الخاصة، ونحن الآن نأخذ مجموعة المبادئ هذه كأمر مسلم به، لكن وكما أظهر "الربيع العربي" فقد يختار الناس في أماكن أخرى حق التصويت دون المطالبة بالحزمة الكاملة. إن أولئك الذين تمردوا على الأنظمة الاستبدادية سعوا إلى تحرير أنفسهم وليس تقليد الغرب.
كما جادلت أنا وإيفان كراستيف زميلي في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، يبدو أن العالم ينتقل من عصر الإمبريالية إلى عصر إنهاء الاستعمار، علما بأنه في عصر الإمبريالية ساعد نجاح النموذج الاقتصادي الرأسمالي وتقنيات الاتصال الجديدة على نشر الأفكار والقيم الغربية في جميع أنحاء العالم، لكن الآن ترغب الدول والمجتمعات بشكل متزايد في الاحتفاء بقيمها وثقافتها.
إن لهذا التحول في النموذج تداعيات كبيرة على الجميع، لكن بشكل خاص على أوروبا. ستحتاج القوى التي تريد الازدهار إلى تبني تصور للقوة الناعمة يكون "صديقا للسيادة"، وإذا فشلنا في ذلك، فسنكون - نحن الأوروبيين - دائما متهمين باستخدام مبادئنا ومعاييرنا للدفاع عن امتياز البيض، وسنبقى على خلاف مع المشروع الجديد لإنهاء الاستعمار، وبالتالي في حالة عدم توافق مع أغلبية المجتمع الدولي.

الأكثر قراءة