انتفاضة «الخبز» تحرق رموز إيران
انتفضت عدة مدن إيرانية، الأسبوع الماضي، ضد قرار السلطات رفع الدعم عن المواد الأساسية، بعدما أعلن الرئيس إبراهيم رئيسي سلسلة إجراءات لمواجهة الصعوبات الاقتصادية التي تعانيها البلاد، تقضي بفرض تعديلات جذرية على نظام الدعم الحكومي، نتج عنها ارتفاع صاروخي في الأسعار، بنسب تصل إلى 200 في المائة، طال مواد الدقيق والزيوت واللحوم والألبان...
أشعل توجه الحكومة نحو تحرير الأسعار موجة غلاء غير مسبوقة في البلاد، زادت أعباء المعيشة على المواطن الإيراني، المثقل أصلا بتداعيات الأزمة الاقتصادية المتفاقمة على خلفية العقوبات الدولية ضد طهران. واضطرت وسائل الإعلام الحكومية إلى تغطية الاحتجاج، حتى تتيح الفرصة أمام المسؤولين الإيرانيين لمخاطبة الشعب، قصد تفسير حيثيات القرار ودواعي اتخاذه، وشرح إجراءات مواجهة تداعياته الكارثية على أكثر من نصف الشعب الإيراني.
بقيت هذه المتابعة الإعلامية التي يسوقها أنصار المرشد، إفكا وبهتانا، مثالا لحرية الصحافة والإعلام في إيران، تحت سلطة ومقص الرقيب، فنطاق تداول الخبر كان عن اضطرابات في بعض المدن "شهركرد، أردبيل، دزفول..."، تطور في بعض المواقع إلى اضطرام النار في متاجر خاصة، سرعان ما استطاع رجال الأمن السيطرة عليها، بفرض الهدوء في مواقع الاحتجاج.
لكن حقيقة الأوضاع أكبر من ذلك بكثير، فالاستقرار المزعوم في الأخبار يقابله ميدانيا فتيل من الاضطرابات، في عديد من المدن في الشمال الغربي والجنوب الشرقي، وتعطيل لشبكة الإنترنت أو خفض سرعتها، فيما لا يقل عن ست محافظات إيرانية، درءا لأي تعاون وتنسيق في مواقع التواصل الاجتماعي من أجل تنظيم مزيد من المسيرات والاحتجاجات، على غرار ما حدث أيام الثورة الخضراء الموؤودة 2009.
وشهدت مدن "كرمشان، جونقان..." أعنف المظاهرات، حيث استعانت قوات الأمن بالنيران لفضها، ولا سيما بعد إقدام المحتجين على إحراق العلم الإيراني، وترديد شعارات تطالب رجال الدين بالرحيل عن السلطة، فيما هتفت محتجون بشعارات تستهدف ثوابت النظام في طهران، مرددين "الموت لرئيسي وخامنئي" و"يا رئيسي إذا كنت تستحي، فتنحى". وبلغ الأمر في محافظة في جنوب غرب إيران، حد إضرام النار في قاعدة تابعة لقوات الباسيج، الذراع العسكرية للحرس الثوري الإيراني.
يدرك النظام أن الوضع الداخلي أقرب إلى برميل بارود على نار، يوشك أن ينفجر في أي لحظة، لذلك لم تتأخر الحكومة في الدخول على خط الأزمة، بتعهد الرئيس الإيراني بألا يطول ارتفاع الأسعار أنواع الخبز المصنفة وطنية والوقود والدواء. وبشر جواد ساداتي نجاد وزير الزراعة الإيراني في الإعلام الرسمي، بشروع الحكومة في عرض الدجاج في عموم البلاد. وكعادة نظام المرشد، ربط مسؤول في طهران معضلة ارتفاع الأسعار بتهريب الخبز المدعوم إلى كل من العراق وأفغانستان.
دفعت أزمة الأسعار النظام إلى الانقسام على نفسه، فشرعت أطيافه في تبادل النيران، فهاجمت صحيفة "الجمهورية" الحكومية في افتتاحية لها الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، متسائلة "كم من الوقت يستغرق لإدراك أن البلاد لا تخضع لعلاج التصريحات؟"، مضيفة بلهجة حادة "إذا كان يتحلى بالشجاعة فعلى رئيسي تقديم استقالته عن السلطة". هجوم الصحفية كان انتصارا لروحاني ضد رئيسي، الذي حاول تبرئة ذمة حكومته، معتبرا الأزمة جزءا من تركة الحكومة السابقة.
انتفض روحاني ضد هذه الاتهامات، مطالبا خلفه بالتحلي بـ"الواقعية والكف عن الكذب والابتزاز في تصريحات"، معتبرا "بعض الناس داخل البلاد أو خارجها بوعي أو بغير وعي أو بدوافع سياسية وفئوية ينكرون إنجازات الحكومة السابقة ويوجهون إليها النقد". وفيما يشبه اعترافا رسميا بهول الأزمة، شدد روحاني على أنه "بغض النظر عن الخلاف في الرأي، علينا جميعا مساعدة الحكومة الحالية لتجاوز هذه اللحظة الخاصة، من أجل حل مشكلات البلاد وتحسين الوضع الاقتصادي والوجود القوي في الوضع الدولي المعقد".
موازاة مع معركة تبرئة الذمة بتبادل الاتهامات، وبحثا عن ضمانات لمزيد من تهدئة الأوضاع، أعلنت الحكومة عزمها طرح قسائم إلكترونية في الأسابيع المقبلة لكميات محددة من الخبز بالسعر المدعوم، على أن تجرى في وقت لاحق إضافة سلع غذائية أخرى إلى القائمة. وينتظر - بحسب إحسان خاندوزي، وزير الاقتصاد الإيراني - أن تسبق تطبيق نظام البطاقات المدعومة عملية تقديم مساعدات مالية مباشرة، تناهز ما بين عشرة إلى 14 دولارا، حسب الوضع المالي للأسرة، لزهاء 60 في المائة من الإيرانيين لمدة شهرين أو ثلاثة أشهر.
حل كان بمنزلة طوق نجاة لحكومة رئيسي، حوله غلام علي جعفر زاده النائب البرلماني إلى سخرية بين الإيرانيين، حين علق على الموضوع في مقابلة إعلامية بقوله "الدول العربية المجاورة تفكر في الذهاب إلى الفضاء، ونحن نفكر في آلية توزيع الطعام على الإيرانيين". وتابع بسخرية لاذعة "في أيام الحرب الإيرانية - العراقية لم يكن الخبز مقننا في بلادنا، لكن الآن يقول المسؤولون بفخر إنهم قد قننوا الخبز". ورفض ادعاءات مؤيدي الحكومة المروجة لخبر تهريب ثلاثة ملايين طن من القمح، متسائلا "أين الأجهزة الحكومية والرقابية؟".
أزمة ليست كباقي الأزمات، إن على مستوى السياق أو التوقيت وكذا التداعيات، فلأول مرة ينقسم النظام على نفسه منذ بداية الأزمة، كما أن في جرأة المتظاهرين على استهداف رموز النظام "المرشد والباسيج" أكثر من رسالة إلى أصحاب العمائم، بأن فزاعة الخوف من بطش وجبروت النظام إلى زوال. وتبقى معضلة الفشل في إبرام صفقة جديدة بشأن الملف النووي شبحا آخر يزيد الأزمة عمقا في إيران، علاوة على ظاهرة الجفاف التي عمت الدولة، فالتقارير تتحدث عن انخفاض متوسط الأمطار 85 في المائة، ما ينذر بموسم جفاف غير مسبوق يمتزج مع متغيرات إقليمية ودولية، يوشك تضافرها أن يشكل بداية تحرر الشعب الإيراني، ونهاية نظام الملالي، الذي سرق الثورة من أبنائها في إيران.