انتخابات لبنان تبشر بأفول جمهورية حزب الله
تمكن اللبنانيون من تنظيم الانتخابات النيابية في موعدها، رغم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة التي تتقاذف الدولة، ذات اليمين وذات الشمال، أملا في أن تكون هذه المحطة الانتخابية - بما تحمله من دلالات على "الديمقراطية" - منعطفا لوقف حالة الانهيار التام التي تعيشها البلاد منذ عدة أشهر. لكن نتائج الصناديق أبت إلا أن تعاكس إرادة أبناء بلاد الأرز، بعدما أحدثت تغييرات في فسيفساء المشهد، دون أن تنجح في الإطاحة بأساس النظام الطائفي.
واقعيا، يصعب تغيير نظام قائم على المحاصصة بأداة هي من أدوات النظام نفسه، فالنظام الانتخابي في لبنان أنتج في سياقات تاريخية معينة، بحيث يعيد إنتاج التركيبة الطائفية ذاتها. ما يعرض أي محاولة للتغيير للانكسار أمام هذا الحاجز المنيع الذي تشكله مؤسسات النظام السياسي، لكن اقتراع 15 أيار (مايو) الماضي لا يعدم بصيص أمل في النتائج، ففي التفاصيل كثير من المؤشرات على أفول الدولة الطائفية لمصلحة الدولة المدنية.
اندحار حلف الدولة الطائفية
أول تلك المؤشرات عودة قوى "14 آذار" إلى الصعود على حساب قوى "8 آذار"، بعدما فقد حزب الله وحلفاؤه الأغلبية في مجلس النواب، على الرغم من احتفاظ الثنائي الشيعي "حزب الله وحركة أمل" بكل المقاعد العائدة إلى الطائفة الشيعية "27 مقعدا"، خسر حلفاؤه التقليديون "التيار الوطني الحر" مقاعدهم، ما حال دون تأمينهم 65 مقعدا من 128 وهو عدد مقاعد مجلس النواب.
رفض الأمين العام للحزب الإقرار بالهزيمة، حين زعم أن الفوز لم يكن من نصيب أحد، ففي تركيبة المجلس الجديد، بحسب الرجل "لا يوجد فريق سياسي اليوم في الدولة خلافا لما كانت عليه الحال في 2018.. أن يدعي أن الأغلبية النيابية مع هذا الفريق أو مع ذاك الفريق". داعيا إلى التعاون بين الجماعات السياسية، بما في ذلك الوافدون الجدد، قائلا "إن البديل سيكون الفوضى والفراغ".
وزادت كلمة محمد رعد، رئيس الكتلة النيابية للحزب، تفصيل ما أجمله الأمين العام، حين خاطب معارضيه ممن صاروا نوابا، مطلقا رصاصا في كلمات مليئة بصيغ الأمر والنهي والجزم "نتقبلكم خصوما في المجلس النيابي، لكن لن نتقبلكم دروعا للصهاينة والأمريكيين.. لا تكونوا وقودا لحرب أهلية. نحن متسامحون جدا، لكننا أقوياء جدا لنفاجئكم بما لا تستطيعون حتى التوهم به". هكذا حدد الرجل حدود المباح والممنوع في جمهورية حزب الله الوهمية، بعدما قسم اللبنانيين بناء على اختياراتهم السياسية إلى وطنيين وصهيونيين وأمريكيين!
لا سبيل أمام الحزب غير التهديد والوعيد لتبرير هزيمة، توقعها الجميع ما عدا قيادة وأتباع الحزب، فالحفاظ على النواب الشيعيين في البرلمان انتصار بطعم الهزيمة، بعدما خسر الحزب حلفاءه من الطوائف الأخرى "العونيين، الدرزيين..."، فهؤلاء بمنزلة غطاء يتدثر به الحزب لإبعاد تهمة دولية حزب الله. هزيمة تثبتها الأرقام التي أكدت تراجع قبضة حزب الله على الشيعة، حيث انخفضت نسبة المقترعين الشيعة بأكثر من 10 في المائة.
فوز أنصار الدولة المدنية
تستطيع قيادة حزب الله قبول نتائج الاقتراع على مضض، ما عدا نتيجة فوز ممثلي انتفاضة 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019 المحسوبين على الحراك اللبناني، بـ15 مقعدا في البرلمان من بينهم 12 شخصية سياسية جديدة. فهذا الأمر تهديد حقيقي للحزب لجهيتن، إحداهما، ارتباط هؤلاء بحدث انتفاضة شعبية جماهيرية عابرة للطوائف ضد سياسات الحزب في لبنان. والأخرى، الخوف من ثورة الوجوه السياسية الجديدة على قواعد النظام الطائفي، لذلك سارع ممثل الكتلة النيابية للحزب إلى بث تلك الرسائل بلغة حازمة، مخافة إشعال فتيل الثورة من داخل المؤسسة التشريعية هذه المرة.
مخاوف تجد ما يبررها واقعيا، بعد نجاح هذا التيار بمعية شخصيات مستقلة في حصد 26 مقعدا في البرلمان، دون أن تنضوي تحت لواء كتلة نيابية واحدة، لكنها تبقى قوة نيابية بمقدورها أن تفرض نوعا من التوازن داخل المجلس، ومن خلال المشهد السياسي اللبناني. مع ملاحظة مهمة مفادها قدرة هؤلاء على التسلل إلى كل المناطق، ما يعني انطلاق الثورة الشعبية على شيوخ السياسة في لبنان، لمصلحة وجوه جديدة أطاحت بقيادات سياسية شكلت لعقود من الزمن أركان السلطة السياسية في الدولة "فيصل كرامي، أسعد حراني، مروان خير الدين، طلال أرسلان..." أملا في حلحلة مشهد سياسي لا يدور إلا لينتج ذاته.
يبدو أن مضمون رسالة اللبنانيين لم يعجب قيادة الحزب، ولا سيما بعد مكافأة تكتل "القوات اللبنانية" بقيادة سمير جعجع، نظير المواقف الواضحة لقيادة التكتل من سلاح حزب الله، وتحديدا واقعة حي عين الرمانة في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. وتعبير شريحة واسعة من اللبنانيين، خاصة الدروز والمسيحيين، عن وعي سياسي عابر للإقطاعية والطائفية نحو الدولة المدنية، بدعم وجوه شابة مستقلة، بعيدة كل البعيد عن فلك الحرس القديم الذي يسعى عند كل محطة انتخابية إلى تأكيد هيمنته على الساحة بمحاصرة وتطويق الوجوه الجديدة في المشهد السياسي.
تغيير القواعد لا استبدال الوجوه
صحيح أن ثمار انتفاضة 17 أكتوبر الشبابية بدأت تظهر بنجاح قوى التغيير في سحق التحالف الحاكم بقيادة وكيل إيران في لبنان، وفرض كتلة نيابية وازنة من خارج النظام القائم داخل البرلمان. لكن جوهر المشكلة يتعدى تغيير الوجوه نحو الدفع بإعادة النظر في قواعد اللعب، فأي كتلة برلمانية مهما كانت قوية فستصطدم بسلطة رئيس البرلمان الذي يكون من التيار الشيعي، وفق نظام المحاصصة. ما يعني إمساك حزب الله بعنق الجمهورية اللبنانية، فالرئيس من يتولى إدارة المؤسسة وتسيير الجلسات وطرح القوانين والمبادرات الإصلاحية التي تنتظرها المؤسسات الدولية المانحة.. يبقى كل هذا رهين توافقه مع أجندة وأيديولوجية حزب الله، ليرى النور داخل المؤسسة التشريعية.
فالثابت - وفق النتائج المعلن عنها - احتمالان لا ثالث لهما، إما شلل سياسي طويل أو انزلاق نحو العنف، فصناديق الاقتراع أفرزت فسيفساء برلمانية لا تمنح أكثر عددية لأي طرف، ما قد يعقد إنجاز الاستحقاقات المقبلة الملحة، من انتخاب رئيس جديد للبرلمان ورئيس للبلاد وحكومة جديدة، علاوة على إصلاحات جوهرية للخروج من الأزمة الاقتصادية.
لا أحد من المراقبين ينكر حدوث تغيير في موازين القوى، لكن لم يصل بعد إلى مستوى ترجمته في برنامج تغييري. فما دام حزب الله يتحكم في الدولة باستخدام آلية التعطيل، ويحتفظ بقدرته على ممارسة حق الفيتو، فثمة خطر حقيقي بحصول شلل تام في لبنان، فالأغلبية البرلمانية كانت تمكن الحزب في السابق من فرض قراراته وحماية خطوطه الحمراء دون اللجوء إلى العنف. بذلك يكون النصر الأكبر في لبنان هو تغيير قواعد اللعبة السياسية للحيلولة دون نفوذ حزب الله على المشهد السياسي في لبنان مستقبلا، وما دون ذلك يبقى نجاحا في معارك صغرى لا يغني عن مواجهة كبرى، تكسر الذراع الإيرانية الممتدة في بلاد الأرز إلى الأبد.