أمريكا تختار الوضوح الاستراتيجي في تايوان

أمريكا تختار الوضوح الاستراتيجي في تايوان
بايدن: "الحالة مع تايوان تشبه الحالة مع أوكرانيا".

فرضت الحرب في أوكرانيا على واشنطن المجاهرة بالسياسة الأمريكية تجاه الصين، بعد نحو عام ونصف من وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض. فقد حذر في حضرة رئيس الوزراء الياباني - خلال أول جولة آسيوية للرئيس الأمريكي الأسبوع الماضي - من أي محاولة لتغيير الوضع القائم بالقوة في منطقة المحيطين الهندي والهادي، في إشارة إلى خطط الصين الرامية إلى احتلال تايوان، مشهرا ورقة التدخل العسكري في وجهة بكين، متى أقدمت على غزو الجزيرة ذات الحكم الذاتي.
أيام بعد ذلك، فصل أنتوني بلينكن وزير الخارجية معالم الاستراتيجية الأمريكية تجاه الصين، بلغة "شبه دبلوماسية"، تحرص على دس السم في العسل. فقد أشاد الدبلوماسي الأمريكي بأهمية التنافس بين الطرفين، والدور الصيني الكبير في الاقتصاد العالمي. وحذر في الوقت ذاته من أن الصين دولة لا تحدوها فقط الرغبة في تغيير النظام العالمي، بل تملك أيضا القوة المتصاعدة دبلوماسيا واقتصاديا وعسكريا وتكنولوجيا للقيام بذلك، ما يجعلها - حسب لسان الوزير - التحدي البعيد المدى والأكثر جدية للمنظومة العالمية.
انزعجت بكين بشدة من أحاديث الأمريكيين عن جزيرة تايوان، فالإمعان في هذه الحرب الكلامية يزيد الوضع المعقد تعقيدا، مضفيا مزيدا من الشرعية على حرب باردة جديدة، لا تخطئها العين، بين واشنطن وبكين. تعدت الصين حدود الأقوال نحو إقدام مقاتلات صينية وروسية على تدريبات مشتركة، بالقرب من مناطق الدفاع الجوي لليابان وكوريا الجنوبية، بالتزامن مع اختتام بايدن جولته الآسيوية، وفي ذلك أكثر من رسالة إلى واشنطن.
دفع الامتعاض الصيني الإدارة الأمريكية إلى التأكيد، من باب التوضيح، أن السياسة الأمريكية تجاه تايوان لم تتغير، على الرغم من أن معطيات الواقع تفيد بالنقيض تماما. وكان آخرها، خطوة الاجتماع الأمني الرباعي "كواد" في طوكيو، بمشاركة كل من اليابان والهند وأستراليا والولايات المتحدة الأمريكية، بعد يقين شبه تام في المعسكر الغربي بأن مستقبل جزيرة تايوان مرتبط بنتائج الحرب الروسية في أوكرانيا، ما يستدعي التحرك بشكل مستعجل، في ضوء المتغيرات الراهنة، للحيلولة دون تكرار الصين السيناريو الروسي في تايوان.
تحرك فرض على واشنطن مراجعة تقليد "الغموض الاستراتيجي" الذي تنتهجه من أيام الرئيس دوايت إيزنهاور "1953 - 1961"، فقد تعمدت حكومته نهج عدم الوضوح والضبابية في عديد من جوانب السياسة الخارجية. وكان لسمعة الرجل كقائد عسكري "1945 - 1948" بالغ الأثر في اعتماد أسلوب إلقاء الشك في عقول الخصوم، لدرجة أن المؤرخين تحدثوا عن عجز قادة دول معادية لأمريكا، في ذاك الوقت، عن توقع ما قد يقدم عليه الرئيس الأمريكي، بسبب هذه الاستراتيجية.
تكرر استخدام سلاح الشك خلال فترة حكم الرئيس رونالد ريجان، فإطلاقه وصف "إمبراطورية الشر" على الاتحاد السوفياتي، وتمسكه بمبادرة الدفاع الاستراتيجية المشهورة بـ"حرب النجوم".. كل ذلك لم يحل دون انخراط الإدارة الأمريكية بجدية مطلقة في المفاوضات حول نزع التسلح. ولد هذا الغموض والتضارب لدى قادة الاتحاد السوفياتي شعورا بأن الرجل على أهبة الاستعداد لخوض حرب نووية ضدهم في أي لحظة.
تتجه إدارة بايدن نحو تحويل هذه السياسة إلى جزء من التاريخ الأمريكي، بعد استبدالها بسياسة "الوضوح الاستراتيجي" في قضية تايوان، أحد أشهر الأمثلة على الغموض الاستراتيجي في السياسة الأمريكية. تاريخيا، كانت الحرب الأهلية الصينية 1949 وراء انسحاب حكومة جمهورية الصين، المدعومة أمريكيا، نحو تايوان أمام تقدم قوات الزعيم الشيوعي ماو تسي تونج على الأرض.
قام الرئيس الأمريكي، عقب اندلاع الحرب الكورية "1950 - 1953" بإبرام اتفاقية دفاع مشتركة مع تايوان، تلزمها بموافقة واشنطن على أي تحرك عسكري لتايوان ضد الصين، ما حال دون اندلاع حرب في مضيق تايوان. قبل أن تقرر واشنطن 1979 التخلي عن المعاهدة كشرط لإقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع بكين، في عهد الرئيس جيمي كارتر لمصلحة قانون "إقامة العلاقات مع تايوان" يسمح بتزويد واشنطن الإقليم ذي السيادة بكل الوسائل لتحقيق الاكتفاء الذاتي في المجال الدفاعي، على أن توكل مهمة تحديد النوعية والطريقة إلى الرئيس الأمريكي.
نظير ذلك، اعترفت الولايات المتحدة الأمريكية بوحدة الصين "سياسة الصين الواحدة"، أي الإقرار بوجود حكومة صينية واحدة لها علاقات رسمية مع واشنطن، دون أن يعني ذلك الاعتراف بجزيرة تايوان ككيان ذي سيادة. مع وجوب التمييز هنا بين "سياسة الصين الواحدة" و"مبدأ الصين الواحدة" الذي تصر بموجبه بكين على أن تايوان جزء لا يتجزأ منها، تنبغي استعادته ذات يوم، بناء على تفاهم متبادل مع واشنطن.
أدركت القيادة الأمريكية أن اللحظة تستدعى "الوضوح الاستراتيجي" تجاه تايوان، على الرغم من عدم الإقرار رسميا بذلك. فالمجتمع الدولي أذعن سابقا لضم روسيا شبه جزيرة القرم، ويتابع التدخل الروسي في أوكرانيا، دولة مستقلة ذات سيادة. فكيف يتوقع أن تكون الحال مع تايوان التي لا تعترف بها أغلبية دول العالم كدولة ذات سيادة. علاوة على وجود توافقات زمن الغموض الاستراتيجي، تعد تايوان جزءا من الأراضي الصينية.
من شأن هذا التحول أن يعيد صياغة معادلة جديدة في منطقة المحيطين الهادي والهندي، بإيجاد نوع من الردع المزدوج، فكلا الطرفين سيحجم عن تعريض الوضع الراهن للخطر من خلال التدخل المحتمل للولايات المتحدة الأمريكية، في حين يشعر بالاطمئنان إلى أن الطرف الآخر لن يحاول تغيير الوضع الراهن من جانب واحد. وعلى فرض وقوع تدخل مستقبلا، فالصين سترسم الخطط العسكرية آخذة في الحسبان إمكانية دخول الولايات المتحدة الأمريكية على الخط.
إنها أول دروس الحرب، فالاستخفاف بالدب الروسي كلف واشنطن كثيرا في الشرق الأوسط وفي شمال ووسط إفريقيا ثم في عمق أوروبا، لذا تتجنب الوقوع في الفخ ذاته في تايوان، ما استدعى نهج "الوضوح الاستراتيجي" الذي يقتضي عد الصين عدوا. حقيقة تجب كل الإقرارات الأمريكية السابقة بأحقية الصين في تايوان، ولا سيما بعد تصريح بايدن بأن "الحالة مع تايوان تشبه الحالة مع أوكرانيا".

الأكثر قراءة