الهجرة طريق الهروب الأسهل للعقول الإيرانية

الهجرة طريق الهروب الأسهل للعقول الإيرانية

أرقام صادمة تأتي من إيران لتبين حجم الهوة الكبيرة بين الطبقة الحاكمة والشعب، وما بين الهجرة القسرية والطوعية سجلت لوائح المهاجرين أحد أعلى معدلات هجرة العقول في العالم، لتسجل أعلى معدلات ارتفاع على صعيد سجلات النمو السنوية للمهاجرين من إيران بنسبة 2.2 في المائة، فيما يبلغ إجمالي المهاجرين 1.8 مليون مواطن خارج البلاد، حيث سجلت الفترة بين 1990 و2020، عشرات آلاف العقول المهاجرة، منهم من شق طريقه مهاجرا لطلب العلم والهرب من الواقع الأليم، ومنهم من تم توظيفه لخدمة مشاريع استخباراتية للنظام الإيراني، وبين هذا وذاك ارتفع عدد الطلاب الإيرانيين الدارسين في الجامعات الأجنبية خلال الفترة 2003-2018 من 19 ألفا إلى 56 ألف طالب.
وجاءت الولايات المتحدة الأمريكية في مقدمة الوجهات التي يرغب المهاجر الإيراني في الذهاب اليها رغم الشعارات الرنانة في خطب وصلوات الجمعة من كل أسبوع التي تتوعد أمريكا بالموت، فالوعي الشعبي يدرك تماما الأكاذيب والمسرحيات التي يروجها نظام بلاده، فيما احتلت تركيا، وألمانيا، وإيطاليا، وكندا قائمة أفضل وجهات يقصدها هؤلاء الطلاب.
بصفته صاحب الولاية العامة في كل صغيرة وكبيرة في البلاد، اتهم علي خامنئي القائد الأعلى المسؤولين الذين يشجعون الشباب في الجامعات على الهجرة بالخيانة، مبديا استياءه من هذه الأرقام الكبيرة للمهاجرين غاضا الطرف عما أجبر العقول للهجرة من دوافع وأسباب جعلت العيش في البلاد حاجة مستحيلة، ورغم الصحوة الرسمية المفاجئة للنظام الإيراني حول آخر مستجدات هجرة العقول، فإن هذه الظاهرة غير جديدة، حيث بدأت أولى دفعاتها عام 1979 بعد الثورة مباشرة، ولا تزال مستمرة حتى يومنا هذا.
الوقائع والتوقعات تشير إلى مزيد من الرغبة في الهجرة بمختلف أشكالها وأنواعها من إيران، بسبب الفقر المدقع والقمع وتدني مستوى المعيشة جراء الواقع الصعب الذي يعيشه الشعب بسبب المواقف السياسية الصعبة التي تمارسها حكومات الحرس الثوري الإيرانية، التي لا تؤمن بحق الشعوب في الحريات والمساواة والديمقراطية، إضافة إلى توفير العيش الكريم، وما يتخلله من تعليم جيد وعلاج طبي، وتوافر السلع الغذائية في الأسواق مع توفير مستوى دخل جيد للفرد، في حين لا يرتقي مستوى الدخل لموظف في الطبقة الوسطى إلى حفنة دولارات لا تكفيه لسد احتياجاته الأساسية لأسبوع من الشهر، فيما تسود معدلات البطالة بنسب مرتفعة على سلم أي مسوح ميدانية في البلاد.
ارتفاع معدلات الهجرة من إيران يعبر عن مدى السخط الشعبي في البلاد، إذ تعد الجمهورية الإيرانية أحد أهم مصدري النفط في العالم، فيما يعاني شعبها مرارة أنواع متعددة من الحصارات الاقتصادية والسياسية والعسكرية وغيرها جراء الفساد السياسي للسلطة الحاكمة في البلاد التي تنفق أغلب موارد خزانة الدولة على برامج التسليح، لتغطية فساد نخبة السلطة، التي تعيش عالما مختلفا تماما عن العالم الذي يعيشه الشعب الإيراني، كما تتحمل النخب السياسية الحاكمة في البلاد مسؤولية هذه الهجرة، إضافة إلى عديد من الملفات التي يعاني الشعب الإيراني عواقبها، بسبب سياسات العداء والكراهية، التي ينتهجها رجال الثورة في إيران، بعد بث روح التفرقة والفتنة الطائفية بين شعوب دول الجوار، ما زاد الأوضاع سوءا بمزيد من العزلة الرسمية والشعبية.
من جهة أخرى أقدمت الحكومة الإيرانية على برامج ممنهجة للتخفيف من حدة الإقبال على الهجرة، حيث لجأت السلطات الإيرانية إلى اتخاذ تدابير وإجراءات خلال الثمانية إلى العشرة أعوام الماضية، لكبح جماح هجرة النخب، غير أن هذه الجهود لم تركز على منع الأكاديميين أو المهنيين أو الطلاب من الهجرة، بل جذب النخب الموجودة خارج إيران بالعودة إلى البلاد، وجلب الخبرات التي اكتسبوها هناك من أجل المساهمة في دعم الاقتصاد الإيراني، وفي الوقت الذي مورست فيه هذه السياسة على مستوى الرئاسة الإيرانية غير أن الإحصاءات الأخيرة المتوافرة، تشير إلى أن أقل من ألفين من هذه النخبة عادوا إلى إيران خلال الفترة بين 2015 و2020، ومن لم يقرر العودة أو كان ضمن صفوف المعارضة سيكون مصيره كمصير ما بين أربعة وخمسة آلاف شخص قضوا في الاغتيالات والإعدامات التي قدرها المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية المعارض بنحو 30 ألف مواطن، قضوا لمعارضتهم النظام أو رفضهم فكرة العودة.
وبحجة تفادي استغلال العقول الإيرانية، وبهدف تجنيدها لمصلحة السلطات الأمنية الإيرانية، كخلايا نائمة أبرمت الحكومة الإيرانية عقود عمل مع 864 خبيرا إيرانيا في مختلف المجالات العملية للمقيمين خارج البلاد لاستغلال مكانة هذه الكفاءات، والتغطية على العجز الرسمي أمام هذه الأعداد الكبيرة من المهاجرين، وبدأت هذه الجهود عام 2016، والهدف من مثل هذه الادعاءات ربط الخبراء الإيرانيين المقيمين خارج بلادهم بالمؤسسات ذات الصلة داخل إيران، فيما شهدت أخيرا وسائل الإعلام وتحديدا التركية الكشف عن مخططات لتنفيذ اغتيالات بحق رعايا دول تتخذها إيران معادية لها، لكن النظام الإيراني ملتزم بروايته التي تعد هؤلاء الأشخاص يعول عليهم للخدمة والاستفادة من خبراتهم الفنية في الوقت المناسب.
وتبرز إيران من جهة ترتيبها فيما يتعلق بعدد الطلاب الذين يهاجرون خارج البلاد، حيث حلت إيران في المرتبة الـ 19 من أصل 241 دولة، في المقابل حلت إيران في المرتبة الـ 31 بين الدول التي يقصدها الطلاب الأجانب للدارسة، كما حلت إيران عام 2020 في المرتبة 102 بين 132 دولة يقصدها الأساتذة الجامعيون بحثا عن فرص عمل في المجالات الأكاديمية والبحث والحقول المهنية الأخرى، وهذا بلا شك سببه الأوضاع السيئة التي يعيشها الشعب الإيراني، في الوقت الذي توسع المخابرات الإيرانية شبكاتها التجسسية بين صفوف الطلاب في الدول الغربية.
ولا تتوافر أي أرقام رسمية موثوقة حول عدد الإيرانيين في الخارج، حيث يعد كثير منهم أصحاب الجنسية المزدوجة، كما تشير التقديرات إلى أن عدد الإيرانيين المهاجرين الذين يحملون الجنسية الإيرانية فقط، يصل إلى نحو 1.8 مليون شخص، ما يساوي نحو 2.5 في المائة، من عدد السكان، في حين تبين تقديرات أن عدد الإيرانيين وذرياتهم من مزدوجي الجنسية، يصل إلى نحو خمسة ملايين شخص حول العالم.
وفي الوقت الذي كان فيه الطلاب الإيرانيون نهاية سبعينيات القرن الماضي ضمن أكبر شرائح الطلاب الأجانب في الولايات المتحدة، غير أنهم يشكلون الآن نسبة 1 في المائة فقط من الطلاب الأجانب في الولايات المتحدة حاليا (11,451 طالبا إيرانيا في الولايات المتحدة عام 2019).
ويتوجه معظم الطلاب الإيرانيين إلى خارج البلاد للحصول على التعليم العالي ودرجة الدكتوراه، ويدرس نحو نصف الطلاب الإيرانيين الموجودين في الولايات المتحدة فقط (ليسوا من مزدوجي الجنسية) الهندسة ذلك التخصص الذي يشكل أهمية كبيرة بالنسبة للاقتصاد الأمريكي، في الوقت الذي يوجد فيه نقص في عدد الأمريكيين المولودين على الأراضي الأمريكية الذين يختارون دراسة الهندسة، وبعبارة أخرى، هناك وفرة في عدد فرص العمل المتعلقة بتخصص الهندسة بالنسبة للطلاب الإيرانيين حال إكمال دراستهم في الولايات المتحدة، وتشير الأرقام إلى أن الطلاب الإيرانيين يختارون البقاء هناك على العودة إلى بلادهم، ومنهم من تتم تصفيته بتهمة الخيانة ومنهم من يصطف في صفوف المعارضة الإيرانية التي تحلم بمستقبل واعد للبلاد في ظل علاقات شراكة طيبة مع دول الجوار.

الأكثر قراءة