دبلوماسية الحبوب تعيد هندسة العالم
تدريجيا، بدأت نتائج الأسلحة الخفية التي استخدمتها روسيا في الحرب مع أوكرانيا، ممثلة المعسكر الغربي، تظهر تباعا على مسرح الأحداث العالمي. فقبل أسابيع فقط، حذر برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة من أن العالم يتجه نحو كارثة مجاعة عالمية، تهدد أزيد من 811 مليون إنسان في العالم، ضمن ما سماه التقرير "حلقة النار" حيث يذهب الناس إلى النوم وهم جائعون.
عودة شبح المجاعة بقوة، مرتبط وفق البرنامج الأممي، بالصدمات المناخية التي كان لها انعكاس واضح على المردود السنوي للمحاصيل الزراعية، وبالتداعيات الاقتصادية لوباء كورونا الذي دفع بالجوع إلى مستويات قياسية. لكن النزاعات العسكرية، وتحديدا الحرب الروسية الأوكرانية، التي خلخلت سلاسل التوريد على الصعيد العالمي، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار بشكل قياسي، تظل المسبب المحوري لمجاعة وشيكة، تلاحق مناطق واسعة في العالم.
بعيدا عن لغة السلاح وصوت البنادق، كشفت أيام الحرب أن موسكو تراهن على "الأسلحة الهادئة" لحسم نتيجة الحرب أكثر من اعتمادها على الأسلحة التقليدية. واختارت، إلى جانب سلاح الغاز الطبيعي، سلاح القمح، الذي حظي بمكانة مهمة عبر التاريخ كسلعة عالمية ورمز للسيادة، واشتهر بتوظيفه سلاحا حاسما في وقت الحروب والأزمات السياسية.
لمح دميتري ميدفيديف رئيس مجلس الأمن الروسي إلى رهان روسيا على سلاح الطعام، في تصريح بمنزلة تحذير مبكر للدول الغربية، مؤكدا بأن موسكو "لن تزود إلا أصدقاءها بالمنتجات الغذائية والزراعية"، واصفا الغذاء بأنه "السلاح الهادئ أيام الحرب". كان لهذا التهديد صدى في واشنطن، فالحرب أولها كلام كما في الأثر، حيث ارتفعت أسعار القمح في بورصة شيكاغو لحدود قصوى، ما اضطر التجار إلى التوقف عن التداول لمدة خمسة أيام متتالية.
كانت القيود على الصادرات الغذائية باكورة ثمار سلاح القمح في الحرب، فمنعت الهند، في خطوة احترازية، تصدير القمح، وأوقفت إندونيسيا صادراتها من زيت النخيل، والدواجن في ماليزيا... فتولد ما يسمى التأثير المضاعف في الأسعار العالمية التي ارتفعت، وفق نظرية إيجاد الندرة المصطنعة. بذلك أيقنت روسيا أن القمح سلعة استراتيجية، بمقدورها إعادة تشكيل خريطة الأمن الغذائي العالمي، وأحد الأسلحة الفتاكة الذي تدفع دول المعسكر الغربي إلى وقف حرب الاستنزاف في أوكرانيا، وتجبرها على الجلوس إلى طاولة التفاوض.
يسيطر طرفا الحرب على 30 في المائة من صادرات القمح العالمية، وتحول أطوار الحرب، بحسب منظمة الفاو، دون زراعة 30 في المائة من الأراضي الزراعية في أوكرانيا. واقتنى برنامج الغذاء العالمي من روسيا 50 في المائة من القمح الذي احتاج إليه العام الماضي. وزودت روسيا الوطن العربي بأزيد من 40 في المائة من احتياجاته من القمح.
أدركت روسيا أهمية إنتاج الحبوب، ليس في إطعام السكان المدنيين فحسب، بل في الحروب السياسية بين الدول، فبحثت لنفسها عن مركز وموطئ قدم بين كبار المنتجين، ودخلت قائمة الدول العشر المهمينة على الإنتاج الذي بلغ، في 2020، نحو 760 مليون طن، مزروعة على مساحة تقدر بنحو 2.25 مليون كيلومتر مربع. تستحوذ شرق آسيا على ثلث الإنتاج "253 مليون طن"، متبوعة بالقارة الأوروبية "140 مليون طن"، فمنطقة البحر الأسود "124 مليون طن"، وأخيرا أمريكا الشمالية "85 مليون طن".
في ترتيب الدول تأتي الصين "125 مليون طن" أولا، فالهند ثانيا "94 مليون طن"، وتأتي الولايات المتحدة في المركز الثالث "61 مليون طن"، متبوعة بروسيا "37 مليون طن"، ثم فرنسا خامسة "40 مليون طن"، تليها أستراليا "30 مليون طن"، وتحتل كندا المرتبة السابعة "27 مليون طن". تبقى قوة روسيا، رغم تفوق دول أخرى عليها من حيث الإنتاج، في كونها أول المصدرين للقمح، بأزيد من 37 مليون طن في 2020، فيما تحتل الولايات المتحدة وكندا المركز الثاني بتصدير 26 مليون طن.
تعلم روسيا تأثير سلاح القمح جيدا، فقد سبق لها أن اختبرته، دون أن تقرر ذلك، أواسط 2010، حين أهلك الجفاف والحرائق 20 في المائة من محصول الحبوب، فقرر الرئيس حظر تصدير 21 مليون طن من القمح. لم تتأخر نتيجة هذا القرار، فبعد أشهر ستندلع الاحتجاجات في عديد من الدول في المنطقة العربية، وكان الرغيف والعيش أولى مطالب الجماهير التي احتشدت في الساحات والميادين في تونس ومصر واليمن وليبيا وسورية...
تاريخيا، وظف جوزيف ستالين القمح في 30 القرن الماضي، لإجبار المزارعين في أوكرانيا على العمل في المزارع الجماعية، من خلال اقتحام البيوت ومصادرة مخزونها من القمح. ودفع نحو 4،5 مليون شخص حياتهم ثمنا لهذه السياسة. كما هددت به الولايات المتحدة العرب لما قطعوا عليها البترول، في حرب 1973، وجرى الحديث حينها عن أن كل قطرة بترول بحبة قمح". واستخدمه ونستون تشرشل، رئيس الوزراء البريطاني، في 1943، للسيطرة على ولاية البنغال الهندية التي قاومت الاحتلال، مستغلا موجة الجفاف التي شهدتها الولاية، لإخضاع السكان مقابل السماح للأسطول التجاري البريطاني بتوصيل القمح والأرز. وحضر هذا السلاح في إخضاع العراق تمهيدا لاحتلاله، تحت مسمى النفط مقابل الغذاء، الذي أودى بحياة أكثر من 1،5 مليون طفل عراقي.
وقائع وأخرى تثبت خطورة سلاح القمح أو وقع "دبلوماسية الحبوب"، بتعبير الخبير الفرنسي سباستيان أبيس مؤلف كتاب "الجغرافية السياسية للقمح"، الذي تمعن روسيا في استعماله، ما جعل مديرة صندوق النقد الدولي تحذر قائلة، "الحرب في أوكرانيا تعني الجوع في إفريقيا". وذهب المؤرخ والأكاديمي الأمريكي سكوت رينولدز نيلسون في كتابه "محيطات الحبوب: كيف أعاد القمح الأمريكي صنع العالم" إلى أن أمريكا هندسة العالم خلال القرن 19 مستخدمة سلاح القمح.