ألمانيا .. أعداء الأمس أصدقاء اليوم
تستمر الحرب الروسية الأوكرانية في كشف مزيد من المفاجآت، فما كان يحدث بالسر أصبح يحدث بالعلن وعلى مرآى ومسمع من العالم الذي يتخذ الإجراءات والتدابير لإرساء قواعد السلام والأمن والأمان العالمي ضمن تفاهمات الكبار، فلا صوت يعلو فوق صوت المصالح، فلا حليف يبقى على حاله، ولا عدو يستمر في معاداته، فالمصالح التي جمعت بريطانيا وأمريكا وفرنسا وروسيا لمحاربة المانيا، هي الدول ذاتها اليوم التي تصطف مع ألمانيا في التحالف نفسه ضد روسيا.
التزمت برلين بموقف محايد شكلا ومضمونا تجاه الحرب الروسية الأوكرانية خصوصا على الصعيد الإعلامي والتصريحات، لكن ذلك لم يكن سوى كلاما استهلاكيا، يخالف الواقع الذي تعيشه البلاد، من خلال تقديم الدعم للأوكرانيين بالمال والسلاح رغم الدفء الذي يزين البيوت الألمانية بالغاز الروسي ويشعل الروح في حركة مصانعها، إلا أن صانع السياسة الألماني يرى الأمور بمنظور أوروبي غربي، مفضلا الوقوف في وجه موسكو على أنه ثاني أحد كبار أوروبا، وحليف واشنطن القوي الشديد في حلف الشمال الأطلسي -الناتو- الذي يقدر على تغيير أي معادلة بحركة بيدق واحدة، فالتوازن اليوم بالمفهوم الألماني تزويد أوكرانيا بأسلحة دفاعية لإيجاد حالة توازن للأوكرانيين أمام الروس، لكن هناك من يرى أن ألمانيا تستخدم هذه الحرب لتحقيق جملة من المصالح على حساب روسيا وأوكرانيا في آن واحد.
قدمت ألمانيا نفسها في هذه الحرب على أنها أحد أهم الكبار عالميا ليس على الصعيد الاقتصادي والصناعي فحسب، بل على الصعيد العسكري بأنها جاهزة لتبعات أي مواجهة مع أي كيان أوروبي خارج إطار الأزمة الأوكرانية، كما أنها عمقت العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، بتقديم نفسها شريكا مهما وموضع ثقة، يمكن للأمريكيين الاعتماد عليه، وفي أوروبا تمثل ألمانيا دور المعين الأكبر لفرنسا التي تعد القوة الأكبر أوروبيا، والأكثر إقبالا للحصول على المشورة الألمانية، التي تلتزم بمدرسة العقلانية والحوار والوقوف على مسافة واحدة من الجميع بالحوار حتى آخر لحظة، بهدف إبعاد شبح الأزمات والحروب عن العالم وأوروبا خصوصا.
الحاجة الدولية لمواجهة الخطر الروسي أصابت النظام العالمي الدولي بضعف البصر، من وجهة نظر الجهات التي تعد برلين خطرا، وكذلك المخاوف من اشتعال حرب عالمية ثالثة جعلت الدول الكبرى تقلب صفحة الماضي مع ألمانيا وتتجاوزها، والقبول بحاضر الدولة الألمانية بعد هزيمة ماضيها النازي، الذي أفقد العالم آنذاك نحو 70 مليون قتيل في حرب دامت ستة أعوام، في الوقت الذي تجتاحه حرب عالمية ثالثة نووية الملامح تقضي على أكثر من ثلثي البشرية والعالم لـ 30 دقيقة فقط، لتكون الأولويات تسمح بفتح المجال أمام دور ألماني جديد، تكون فيه صاحبة الرأي والشأن والقوة الاقتصادية التي ترغب في أن تزيد من مستوى نفوذ قواها العسكرية بعد الغزو الروسي على أوكرانيا.
إلى ذلك سبق وأعلنت وزارة الدفاع الألمانية أنها ستزيد جيشها بمقدار خمسة آلاف جندي ليصل العدد الإجمالي إلى 198 ألفا بحلول 2024 في وقت تمارس واشنطن ضغوطا متزايدة على الأعضاء الأوروبيين في حلف شمال الأطلسي لزيادة الإنفاق العسكري، كما أكدت الوزارة في بيان "أن الجيش الألماني يواجه مطالب لم يسبق قط أن واجهها من قبل"، مضيفا أن الجيش يجب أن يكون قادرا على الرد بطريقة مناسبة على التطورات في الخارج والمخاوف الأمنية، ومع عزوفها لعقود بعد الحرب العالمية الثانية عن المشاركة في مهام عسكرية في الخارج أصبحت ألمانيا في الأعوام القليلة الماضية أكثر نشاطا في دعم قوات دولية جرى نشرها في دول مثل أفغانستان ومالي ومحاربة متشددي تنظيم داعش، وفي (يناير) كانون الثاني أرسلت ألمانيا كتيبة تضم أكثر من ألف جندي إلى ليتوانيا في إطار مهمة لحلف شمال الأطلسي لحماية حدودها الشرقية مع روسيا ردا على ضم موسكو لشبه جزيرة القرم الأوكرانية ودعمها لانفصاليين في شرق أوكرانيا.
من أهم المصالح التي كسبتها برلين جراء الأزمة الأخيرة أنها توجت جهودها التراكمية بالخروج من عقوبات الطابع التحريمي، والمعروف بمنع ألمانيا من بناء قوة مسلحة جديدة يمكنها عند لحظة بعينها أن تكون حجر عثرة أوروبيا ودوليا، فالرواسب التاريخية والذكريات الأليمة لم تمنع اليوم من بناء جيش ألماني قوي يستطيع أن يغير مجرى التاريخ مرة أخرى، فالقوة الاقتصادية بطابعها الصناعي جعلت منها وجهة جديدة للراغبين في اقتناء الأسلحة العسكرية القتالية بشقيها الدفاعي والهجومي، حيث فتحت الحرب الروسية على أوكرانيا المجال لألمانيا بأن تكون حاضرة بقوة كبائع للأسلحة في الأسواق العالمية، من خلال صناعات الدبابات وأنظمة الدفاع الجوي، والمدافع طويلة المدى.
البداية من خاتمة الفقرة السابقة فالإعلان عن مدفعية الـ "بانزرهاوبيتسه 2000" الألمانية لم يلق ترحيبا بالصناعة العسكرية المتطورة أوروبيا، لكنه لقي ترحيبا عند تزويد القوات الأوكرانية بهذه المدفعيات إلى جانب منصات "جيبارد" (الفهد) المتحركة المضادة للطائرات، تعد المدفعية الجديدة من أكثر منصات المدفعية المتحركة تطورا في العالم، والألمان كانوا يخبئونها عن العالم، تبلغ السرعة القصوى للمنصة 60 كيلومترا في الساعة، وقدرة محركها ألف حصان، وهذا يعني أنها قادرة على مواكبة سرعة الدبابات الحديثة وعدم التأخر عن الفرق المدرعة، ويفيد في تنفيذ تكتيك الضرب والهرب، ويمكن لهذه المنصة أن تطلق خمس قذائف مدفعية متتالية بزوايا مختلفة، حيث تسقط كل تلك القذائف على الهدف في الوقت نفسه، ما يعني قدرة وسرعة غير مسبوقتين على إشباع منطقة العمليات بالكثافة النارية، ويتألف طاقم المنصة عادة من ثلاثة أفراد: سائق وراصد ومدفعي، في حال تعطل الأنظمة الإلكترونية يضاف إليهم مدفعي ثان وموجه للمدفعية، ليصبح عدد الطاقم خمسة أفراد.
يحظى الرقم ثلاثة بأهمية بالغة في الصناعات العسكرية ذات الطابع المدفعي، أي: الدبابات حيث تمكنت ألمانيا أخيرا من صنع دبابة جديدة باسم باثنر كي إف 51، وتحمل اسم الدبابة الأشهر في الحرب العالمية الثانية، وتتميز الدبابة الجديدة بأربع خصائص أولها قطر المدفع الذي يزيد بعشرة مليمتر على مدفع الدبابة الأمريكية الأشهر إبرامز إم 1، كما تتميز بأنها ذات تطور تكنولوجي عال، في حين أنها تحتاج إلى طاقم من ثلاثة أشخاص وهذا ما يميزها عن أي دبابة أخرى، إذ يبلغ عدد طاقم الدبابة الأمريكية وغيرها أربعة أشخاص، كما أن الدبابة الجديدة مدرعة من السقف وتحمل قذائف مزودة بخاصية الطيران على طريقة طائرات الدرونز.
أخيرا منظومة الدفاع الجوي الألمانية "إيريس- تي" (IRIS-T) المعروفة باسم "إيريس - تي": صواريخ موجهة قصيرة المدى (جو - جو) للطائرات الحربية دخلت الخدمة عام 2005 ويستخدمها عدد من الجيوش الأوروبية، وتمتلك المنظومة قدرة كبيرة على المناورة، إضافة إلى الدقة العالية في إصابة الهدف بحسب موقع شركة الأسلحة العالمية "ساب" التي تتخذ من السويد مقرا لها.
تصل سرعة الصاروخ المنطلق من المنظومة إلى ثلاثة أضعاف سرعة الصوت (3 ماخ)، ومداه 25 كيلومترا، ويمكنه العمل من مقاتلات متنوعة منها "التايفون" و"إف - 16"، و"إف - 18" و"تورنيدو" و"جريبن"، إيريس - تي" إس إل: نسخة مطورة متوسطة المدى "أرض - جو"، مداها 40 كيلومترا، دخلت الخدمة في الجيش الألماني عام 2014، وهي نسخة مطورة من النسخة السابقة التي دخلت الخدمة عام 2005، بحسب موقع "إير فروس تكنولوجي" الأمريكي، إيريس - تي" إس إل إس: نسخة مطورة قصيرة المدى بمنصة إطلاق عامودي (أرض - جو)، بحسب ما ذكره الموقع الأمريكي، إضافة إلى محطات الرادار الخاصة برصد الأهداف وتعقبها، حيث تعمل مع مراكز الإدارة والسيطرة، في إدارة المعركة مع الأهداف الجوية بداية من عملية الرصد حتى يتم الاستحواذ على الهدف وتدميره.
وما بين سياسات الرصد والتنفيذ نجحت برلين في خططها التوسعية من الناحية العسكرية، مقوضة بجهودها المستمرة كل إجراءات التحريم التي اتخذت بحقها سابقا، لكن رغم ما ستقدمه برلين للعالم والحلفاء الجدد سيبقى ماضيها يطاردها في كل إنجاز عسكري تقوم به، وستبقى المخاوف من نهضتها متنامية داخل كل كيان حاربها في النصف الأول من القرن الماضي.