أوروبا تحترق .. منظومة قديمة تفرض التفكير خارج الصندوق

أوروبا تحترق .. منظومة قديمة تفرض التفكير خارج الصندوق

شكلت موجة الحر الشديد التي تجتاح أوروبا ثالثة الأثافي، بعد أزمتي الطاقة والغذاء، التي تتعرض لها القارة العجوز، منذ اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية. فقد تحول الارتفاع المهول في الحرارة، على امتداد القارة، إلى حدث طارئ في أجندات الحكومات الأوروبية، يزاحم في الأولوية والموارد والانشغال معضلة الحرب الملتهبة في الطرف الشرقي لأوروبا.
تلتهم النيران، منذ أسابيع، عددا من المناطق داخل الدول الأوروبية، من اليونان حتى بريطانيا، مرورا بفرنسا والبرتغال وإسبانيا... مسجلة خسائر قياسية، وفق بيان صادر عن برنامج مراقبة الأرض للاتحاد الأوروبي "كوبرنيكوس"، تحدث عن تجاوز إجمالي المساحة المحروقة حتى الآن، مجموع الأراضي التي احترقت خلال 2021. كل هذا وفصل الصيف في بداياته، فتوقعات المناخيين تفيد بأن نمط الغلاف الجوي، غير العادي بالأجواء الأوروبية، يعزز فرضية بقاء الحرارة مرتفعة، بسبب الهواء الساخن المقبل من جنوب القارة نحو الشمال.
شهدت بريطانيا أكثر الأيام حرارة في تاريخها، بعد بلوغ الحرارة 40 درجة مئوية لأول مرة، متجاوزة بذلك 38،7 درجة، الرقم القياسي المسجل في 25 تموز (يوليو) 2019. وعدت خدمة الإطفاء في لندن، الثلاثاء الماضي، أكثر الأيام عملا لرجالها، منذ الحرب العالمية الثانية. فقد تلقت فرق الإطفاء، في يوم واحد، 2600 مكالمة استغاثة، بفارق كبير عن المتوسط اليومي المعتاد البالغ 350 مكالمة.
خلفت الحرائق خسائر فادحة في عدد من القطاعات الحيوية في البلاد، حيث عطلت خدمات النقل في محطات القطار، من لندن في اتجاه الساحل الشرقي للمملكة، بعد إتلاف معدات الإشارات وقضبان القطارات التي تأثرت بسبب الحرارة. وقامت السلطات بإغلاق مدرجي مطار، بسبب الأضرار التي لحقت بالأسطح. كما اضطرت شركات الكهرباء إلى قطع التيار بسبب الحرارة التي أدت إلى احتراق المعدات. وأغلقت مدارس عديدة أبوابها مبكرا، وكافحت حدائق الحيوانات جاهدة للحفاظ على برودة أجسام الحيوانات.
الوضع في الدول المجاورة لا يقل سوءا عن بريطانيا، فإسبانيا سجلت أكثر من 500 حالة وفاة بسبب الحرارة، واجتاحت النيران أكثر من 70 ألف هكتار من الأراضي في البلاد، ما يمثل ضعف معدل المساحة التي احترقت في الأعوام العشرة الأخيرة. وشهدت منطقة جيروند، جنوب غربي فرنسا، حيث تنتشر زراعة الكروم، حرائق لا نظير لها منذ 30 عاما، امتدت على مساحة تقارب 20 ألف هكتار، أجبرت 37 ألف فرنسي على إخلاء منازلهم. فيما تحدث المرصد الفرنسي لجودة الهواء عن وصول دخان الحرائق إلى باريس، على بعد 500 كيلومتر، ما أثر بشكل واضح في جودة الهواء في العاصمة الفرنسية.
المشاهد الصادمة في أوروبا، بسبب تغير المناخ ليست بالأمر المفاجئ، فالتقارير تتعاقب منذ أعوام محذرة من هذا السيناريو. وآخرها، تقرير صادر عن الأمم المتحدة في شباط (فبراير) الماضي، توقع أن تتزايد حرائق الغابات 30 في المائة، في غضون العقود الثلاثة المقبلة. وحذرت الهيئة، في التقرير ذاته، قادة العالم من تحول موجات الحر، على غرار ما يجري حاليا في أوروبا، إلى مشهد متواتر سنويا، حتى 2060.
تمتزج في الذاكرة الأوروبية ذكريات الفيضانات التي ضربت دول كألمانيا وبلجيكا... صيف العام الماضي، بمشاهد الحرائق المشتعلة، في أكثر من موقع في دول ساد الاعتقاد أن الجغرافيا تمنح شعوبها الأمن والأمان المناخي، لتعيد إلى واجهة التداول العمومي النقاش بشأن المسألة المناخية، فارضة مقاربة جديدة، تؤسس طرحها على معطيات المشهد الحالي.
يبدو سباق الحكومات مع الزمن لتوفير المأوى لعشرات الآلاف من المنكوبين، وإرسال آلاف التلاميذ إلى ديارهم خائفين... صورا مألوفة عقب كل كارثة طبيعية أو بشرية. لكن اضطرار كثير من المؤسسات إلى العمل بالأنظمة الورقية، بعد ارتفاع حرارة خوادم أنظمة الكمبيوتر، واضطرار المشافي إلى إلغاء العمليات الجراحية، وإغلاق أبواب عديد من الدوائر الحكومية في وجه المواطنين... بمنزلة صفعة غير متوقعة للأوروبيين، قيادة وشعوبا.
تفرض الأزمة المناخية على دول القارة العجوز التفكير خارج الصندوق، بغرض مراجعة شمولية للبنية التحتية في الدول الأوروبية، فمنظومة التعمير العريقة في أوروبا، ولا سيما التي بنيت في القرن الماضي، غير قادرة على تحمل المستويات القياسية للحرارة. فجل المباني مصممة على حرارة لا تتجاور 30 درجة، فهي لا تمتلك المرونة اللازمة للاستمرار في الأداء مع ارتفاع الحرارة، ما جعل مدارج المطارات وخطوط السكك الحديدية وخوادم الحواسيب تتوقف عن العمل.
"أشير إلى القمر والأحمق ينظر إلى إصبعي"، مثل صيني ينطبق على الأوروبيين في تعاطيهم مع أزمة المناخ، على مدار عقود، فتفويت شبكات البنية التحتية "الكهرباء، النقل، التعليم، الصحة..." للقطاع الخاص جعلها رهينة المنطق الربحي الرأسمالي، المحكوم برؤية قصيرة المدى. عكس منطق الدولة "القطاع العام" المقيد بفكرة الصالح العام، وقواعد الاستمرارية والدوام.
اختارت الطبيعة الحرائق، لكي تدق جرس إنذار من أجل إيقاظ العقل الأوروبي من سباته العميق، فالمركزية وتضخم الأنا ولدت الوهم لدى العرق الأبيض بقدرتهم على تطويع كل شيء لمصلحتهم بما في ذلك الطبيعة. وأكبر دليل على ذلك، أن الحرائق المتوقدة في أكثر من قطر أوروبي لم توقف الصراع المحموم على كسب التحالفات، ولم تغير شيئا من سباق الصراع الاستراتيجي حول الريادة... تنافس تجزم الطبيعة أن تفقده أي معنى، ما لم ينضبط البشر لقواعدها.

الأكثر قراءة