إيطاليا .. صلة واضحة بين عدم الاستقرار السياسي وتراكم الدين
سلطت استقالة ماريو دراجي، رئيس البنك المركزي الأوروبي السابق، من رئاسة وزراء إيطاليا الضوء مجددا على السياسات المختلة ووضع الديون المتزعزع في هذه الدولة. لكن ما التداعيات التي قد تخلفها مشكلات إيطاليا وسقوط دراجي على منطقة اليورو؟.
تتساءل باولا سوباتشي، أستاذة الاقتصاد الدولي في معهد كوين ماري للسياسة العالمية في جامعة لندن، هي مؤلفة كتاب تكلفة المال المجاني "مطبعة جامعة ييل، 2020" والتقرير الأخير، الصين والهيكل المالي العالمي: الحفاظ على مسارين على مسار واحد.
يعد عبء الدين العام في إيطاليا، الذي يبلغ 150 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، من بين أكبر أعباء الديون في العالم، وثاني أكبر الأعباء بين دول مجموعة العشرين بعد اليابان "262 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي" وقبل الولايات المتحدة "125 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي". وعليه فقد ارتفع عبء دين إيطاليا بنحو 50 في المائة منذ 1990، حينما كانت نسبته تناهز 100 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.
هناك صلة واضحة بين عدم الاستقرار السياسي وتراكم الدين في إيطاليا. ففي الفترة بين 1992 و1995، حينما سقط النظام الحزبي الذي ساد البلاد منذ فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، قفز الدين العام إلى 119 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. ولم تقتصر المشكلة على مجرد الاقتراض المفرط، لكن أسهم فيها أيضا ضعف النمو الاقتصادي بصورة مزمنة، مع زيادة الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي السنوي بأقل من 1 في المائة في المتوسط منذ 1990.
تسبب عدم استقرار الحكومات وقصر أعمارها في تقييد قدراتها بصورة حادة على تنفيذ إصلاحات هيكلية لتحسين الإنتاجية والنمو الاقتصادي الطويل الأجل. فضلا عن ذلك، يرتبط عدم الاستقرار السياسي في الغالب بصورة إيجابية بالمخاطر السيادية، فنجد الفارق بين السندات العشرية الألمانية والإيطالية يتجاوز الآن 230 نقطة أساس. كما تتقدم إيطاليا بفارق بسيط على اليونان في تصور مخاطر أسواق المال.
ومن المفارقات الصارخة أن تأتي استقالة دراجي في يوم إعلان البنك المركزي الأوروبي رفع سعر الفائدة بمقدار 50 نقطة أساس ـ وهو أول زيادة بمثل هذا المقدار منذ 2011. فبعد أعوام من بقاء سعر الفائدة المحدد بموجب السياسات في المنطقة السلبية، أصبح السعر في منطقة اليورو الآن 0 في المائة.
من المؤكد أنه مع بلوغ معدل التضخم السنوي في منطقة اليورو مستوى 8.6 في المائة "اعتبارا من حزيران (يونيو)"، سيكون تأثير هذه السياسة محايدا بوجه عام، كما لا يمثل مؤشرا لاتجاه أسعار الفائدة في الأمد البعيد. في الحقيقة، بعد تخلي البنك المركزي الأوروبي عن أسلوب التوجيه الاستشرافي وتفضيله "نهج الاجتماع أولا بأول" لاتخاذ القرارات المتصلة بسعر الفائدة، فمن المرجح أن يتجه البنك لتشديد سياسته النقدية بوتيرة أبطأ من التي يتطلبها تعهده بتثبيت الأسعار. لكن حتى تطبيع أسعار الفائدة على نحو معتدل قد يمثل مشكلة خطيرة لإيطاليا، ولا سيما في غياب مصداقية "سوبر ماريو" التي كانت لتساعد على حماية البلاد من تقلبات أسواق المال.
أوضح البنك المركزي الأوروبي أن تعهده بفعل "كل ما يلزم" لحماية العملة الموحدة ـ وهو التعهد الذي بذله دراجي في الأساس في 2012 ـ لا يزال قائما. ولإدراك تلك الغاية، كشف البنك عن أداة حماية النقل، التي وضعت من أجل "دعم الانتقال الفاعل للسياسة النقدية" بالحد من التباين غير المنضبط في تكاليف الاقتراض بين دول منطقة اليورو. وسيستطيع البنك المركزي الأوروبي من خلال أداة حماية النقل شراء السندات الحكومية التي تصدرها الدول الأعضاء في منطقة اليورو التي تواجه "تدهورا في الأحوال المالية لا تبرره المقومات الخاصة في الدولة".
لا شك أن كريستين لاجارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي وخليفة دراجي، تعي جيدا مخاطر تفتت منطقة اليورو، وقد أعلنت أن البنك المركزي الأوروبي "قادر على المضي بقوة" في تنفيذ أداة حماية النقل. غير أن الأداة لا تزال جديدة ولم تختبر بعد ـ وقد ينتهي الأمر بإيطاليا إلى أن تكون عينة الاختبار.
بالنسبة إلى منطقة اليورو التي تصارع حربا في أوكرانيا، وأزمة في تكلفة المعيشة، وركودا وشيكا، قد تكون تداعيات أي تجربة فاشلة واسعة النطاق. ومن شأن أي تدهور "أكبر" في وضع ديون إيطاليا أن يعوق عملية إعادة التمويل، بل وربما يفجر أزمة ديون سيادية.
لكن هذا ليس استنتاجا حتميا. بداية، لا تزال مقومات إيطاليا قوية نسبيا. ومن المتوقع أن يتباطأ الناتج المحلي الإجمالي إلى 2،5 في المائة هذا العام وأن يكون أشد تباطؤا في 2023، بعد نمو مقداره 6،6 في المائة في 2021. وقد أسهم معدل نمو العام الماضي ـ الذي كان من بين أعلى المعدلات في آخر ثلاثة عقود من الزمن ـ في تمكين الاقتصاد من التعافي من الجائحة، التي تسببت في انكماش الناتج المحلي الإجمالي 9 في المائة في 2020.
بعيدا عن النمو الاقتصادي، ستلعب العوائد الحقيقية على السندات والميزانية الأولية المعدلة حسب الدورات "وتتمثل في الفارق بين الإيرادات والنفقات مع استثناء مدفوعات الدين" دورا مهما في حسم تعافي إيطاليا ماليا، إذ سيسهم تحقيق فوائض أولية في الحفاظ على استقرار الدين، كما سيؤدي انخفاض تكاليف خدمة الدين إلى استدامة هذا الاستقرار.
في نهاية الأمر، إذا ظلت الظروف متوازنة نسبيا، ستكون إدارة النسبة الحالية للدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في إيطاليا في حكم الممكن. ومن الأمور التي ستساعد في هذا الصدد الاستفادة المنتظرة التي قد تحققها الدولة من مـنح وقروض تقارب قيمتها 160 مليار يورو من صندوق التعافي والمرونة التابع للاتحاد الأوروبي. ورغم إمكانية تسبب عدم الاستقرار السياسي والإخفاق في الوفاء بالأهداف المتفق عليها مع المفوضية الأوروبية في إبطاء، بل ومنع، صرف المبالغ المتفق عليها، فقد تستغرق مثل تلك التطورات وقتا حتى تتحقق.
لكن لا شك أن حدوث أي صدمة "دائمة الأثر"، ولو حتى صغيرة، لأسعار الفائدة الحقيقة، أو النمو الاقتصادي، أو ميزانية إيطاليا الأولية، قد تجعل الدولة عاجزة عن إدارة ديونها. ومهما يكن من أمر، قد يكون من الخطأ الافتراض بأن عدم الاستقرار السياسي الحالي في إيطاليا لا بد أن يفجر بالضرورة أزمة كبرى في أوروبا.
لكن ينبغي لأوروبا أن تراقب من كثب التطورات السياسية في إيطاليا، لأن تشكيل حكومة إيطالية يمينية بزعامة رئيس وزراء قومي شعبوي يتبنى سياسة متشككة تجاه أوروبا - وهي احتمالية واضحة وقابلة للتحقق بعد الانتخابات العامة المقررة في أيلول (سبتمبر) المقبل ـ قد يفضي إلى زعزعة استقرار منطقة اليورو بشدة.
ما قد يزيد الوضع سوءا على سوء احتمالية اشتداد أزمة تكاليف المعيشة خلال أشهر الشتاء، مدفوعة بارتفاع التضخم وندرة الطاقة، ما قد يشعل شرارة سخط عام ويفرض ضغوطا على الإنفاق العام، الأمر الذي سيفضي إلى تقويض الوضع المالي العام في إيطاليا. وفي ظل تواصل اتساع الفارق بين السندات الألمانية والإيطالية، ربما تصبح إدارة الدين أيضا أشد صعوبة.
لقد شهدنا هذا السيناريو من قبل، وفي آخر مرة اعترف سوبر ماريو بأن مفتاح إنقاذ اليورو يقع في يد البنك المركزي الأوروبي، وعمل على قيام البنك بفعل ذلك تحديدا. لنأمل أن تحذو لاجارد حذوه.