انحسار «العولمة» وعامل الصين المجهول

انحسار «العولمة» وعامل الصين المجهول

من الواضح أن العولمة، التي نالت الاستحسان على نطاق واسع في حقبة ما بعد الحرب الباردة، تسير الآن في الاتجاه المعاكس. لقد تعزز التباطؤ المطول الذي طرأ على التجارة العالمية بفعل الارتباكات المستمرة المرتبطة بالجائحة التي أثرت في سلاسل التوريد، والضغوط المستمرة التي تفرضها الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، والجهود المبذولة لمواءمة العلاقات الاقتصادية عبر الحدود مع التحالفات الجيوستراتيجية "دعم الأصدقاء". تعمل هذه التطورات على تضييق الـخـناق على الصين، التي يمكننا أن نزعم أنها كانت المستفيد الأكبر من العولمة الحديثة. بحسب ستيفن روتش، عضو هيئة التدريس في جامعة ييل والرئيس السابق لمورجان ستانلي آسيا، هو مؤلف كتاب غير متوازن، الاعتماد المتبادل لأمريكا والصين "مطبعة جامعة ييل، 2014" والصراع العرضي القادم، أمريكا والصين وصدام الروايات الكاذبة "مطبعة جامعة ييل، تشرين الثاني (نوفمبر) 2022"
بين المقاييس العديدة للعولمة، بما في ذلك التدفقات المالية والمعلوماتية وتدفقات العمالة، يرتبط تبادل السلع والخدمات عبر الحدود ارتباطا وثيقا بالنمو الاقتصادي. ولهذا السبب إلى حد كبير، يشير تباطؤ التجارة العالمية، الذي بدأ في أعقاب الأزمة المالية العالمية خلال الفترة 2008- 2009 ثم اشتد خلال أعوام جائحة مرض فيروس كورونا 2019 كوفيد - 19، إلى تغير هائل طرأ على العولمة. على الرغم من ارتفاع الصادرات العالمية من 19 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في 1990 إلى ذروة بلغت 31 في المائة في 2008، فقد انخفض متوسط الصادرات العالمية في الأعوام الـ13 التالية "2009-2021" إلى 28.7 في المائة فقط من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. لو توسعت الصادرات العالمية على مسار 6.4 في المائة ـ المستوى المتوسط بين الوتيرة الحادة التي بلغت 9.4 في المائة خلال الفترة 1990-2008 والمعدل المتواضع الذي انخفض إلى 3.3 في المائة بعد 2008 ـ فإن حصة الصادرات من الناتج المحلي الإجمالي العالمي كانت لترتفع بشدة لتصل إلى 46 في المائة بحلول 2021، وهذا أعلى كثيرا من الحصة الفعلية التي تعادل 29 في المائة.
كانت المكاسب التي حققتها الصين من عولمة التجارة غير عادية. في العقد الذي سبق انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في 2001، كان متوسط الصادرات الصينية 2 في المائة فقط من إجمالي الصادرات العالمية. وبحلول 2008، ارتفعت الحصة أربعة أضعاف تقريبا، لتصل إلى 7.5 في المائة. الواقع أن التوقيت الذي حددته الصين للتقدم بطلب الالتحاق بعضوية منظمة التجارة العالمية كان مثاليا، حيث تزامن مع ارتفاع كبير في دورة التجارة العالمية. ورغم أن الأزمة المالية خلفت تأثيرا كبيرا لفترة وجيزة في زخم الصادرات الصينية، فإن الانقطاع لم يدم طويلا. بحلول 2021، ارتفعت الصادرات الصينية إلى 12.7 في المائة من الصادرات العالمية، أعلى كثيرا من ذروة ما قبل 2008.
من غير المرجح أن تحافظ الصين على هذا الأداء، مع تباطؤ نمو التجارة العالمية الإجمالي، وخضوع شريحة الصين من كعكة التجارة لضغوط متزايدة الحدة.
تـعـد الحرب التجارية الجارية مع الولايات المتحدة تطورا مـعضـلا بشكل خاص. خلال المرحلة الأولى من طفرة النمو الصيني التي قادتها الصادرات في أعقاب الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، كانت الولايات المتحدة على نحو ثابت مصدر الصين الأكبر للطلب الخارجي. وبسبب الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، لم تعد هذه هي الحال. بحلول 2020، انخفضت واردات الولايات المتحدة من السلع والخدمات الصينية بنحو 19 في المائة عن مستويات الذروة التي بلغتها في 2018. على الرغم من الانتعاش الحاد في أعقاب عودة الاقتصاد الأمريكي القوية بعد الجائحة في 2021، ظلت الواردات الأمريكية من الصين أقل بنحو 5 في المائة من الذروة التي بلغتها في 2018. ومن غير المرجح أن يـفـضي التراجع الجزئي عن التعريفات الجمركية المفروضة على منتجات استهلاكية منتقاة، التي تعدها إدارة الرئيس جو بايدن فيما يبدو مناورة لمكافحة التضخم، إلى إعطاء دفـعـة قوية للتجارة الثنائية.
في الوقت ذاته، من المرجح أن تتسبب ارتباكات سلاسل التوريد المستمرة المرتبطة بالجائحة في إلحاق خسائر فادحة بالصين وبقية العالم. على مدار الأشهر الستة المنتهية في نيسان (أبريل)، بلغ متوسط "مؤشر ضغوط سلاسل التوريد العالمية"، الذي وضعه باحثون في بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، 3.6، وهذا أعلى كثيرا من المتوسط الذي بلغ 2.3 في الأشهر الـ21 الأولى بعد بدء عمليات الإغلاق المرتبطة بالجائحة في شباط (فبراير) 2020، وأعلى بشدة من "الـصـفر" الذي ارتبط بغياب ارتباكات سلاسل التوريد.
هذه مشكلة ضخمة في عالـم متصل بسلاسل التوريد. كانت سلاسل القيمة العالمية تشكل أكثر من 70 في المائة من النمو التراكمي في التجارة العالمية الإجمالية خلال الفترة من 1993 إلى 2013، وتمتعت الصين بحصة كبيرة من هذا التوسع الذي عملت سلاسل القيمة العالمية على تمكينه. مع استمرار ارتباكات سلاسل التوريد، التي تفاقمت بسبب سياسات خفض الإصابات بكوفيد - 19 إلى الصـفر في الصين، من المرجح أن تظل الضغوط على النشاط الاقتصادي الصيني والعالمي شديدة.
تـعـد التوترات الجيوستراتيجية المتصاعدة العامل المجهول الأساس وراء تراجع العولمة، خاصة تداعياتها على الصين. في واقع الأمر يعمل مبدأ "دعم الأصدقاء" على تحويل حسابات ريكاردو لكفاءة التجارة عبر الحدود إلى تقييم للفوائد الأمنية التي تتأتى من التحالفات الاستراتيجية مع الدول ذات الفـكر المماثل. وتبدو الشراكة الجديدة غير المحدودة بين الصين وروسيا وثيقة الصلة بشكل خاص في هذا الصدد. مع اقتراب الصين من تجاوز الحدود بتقديم الدعم للجهود العسكرية الروسية في أوكرانيا، تحركت الولايات المتحدة أخيرا لفرض عقوبات على خمس شركات صينية أخرى من خلال ما يسمى قائمة الكيانات.
علاوة على ذلك، توفر المشتريات الصينية من منتجات الطاقة الروسية مصدرا رئيسا لدعم الاقتصاد الروسي، وبالتالي مقاومة التأثير الذي تخلفه العقوبات الغربية غير المسبوقة. وهذا يزيد من خطر إدانة الصين بالذنب بالمشاركة. من ناحية أخرى، باتت علامات تراجع العولمة المالية أيضا واضحة، مع حرص الصين بشكل ثابت على تقليص حيازاتها من سندات الخزانة الأمريكية إلى مستويات غير مشهودة منذ 2010 ـ وهو تطور لا يبعث على الارتياح من منظور الاقتصاد الأمريكي الذي يعاني نقص الادخار والميل إلى العجز.
لا شك أن الولايات المتحدة ليست متفرجا بريئا في هذه الفاشية من التوترات الجيوستراتيجية. فمن الواضح أن الرحلة التي قامت بها
نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب إلى تايوان تلاعبت بوتر حساس في الصين فيما يتصل بما تعده واحدا من اهتماماتها الأساسية. ويصدق القول ذاته على دعم الحزبين الأمريكيين الرئيسين لتشريع مناهض للصين يشق طريقه ببطء عبر أروقة الكونجرس الأمريكي.
مثلما حاول الرئيس الروسي فلاديمير بوتن تبرير هجومه غير الأخلاقي في أوكرانيا باعتباره دفاعا ضد توسع حلف شمال الأطلسي، فإن مخاوف الصين القائمة منذ أمد بعيد إزاء محاولات الاحتواء الأمريكية تلعب على وتر حساس مماثل داخل دوائر القيادة الصينية. أخيرا، حـذر هنري كيسنجر، مهندس السياسة الأمريكية الحديثة في التعامل مع الصين من ولع أمريكا "بمواجهة لا تنتهي" مع الصين ودعا إلى التحلي "بمرونة نيكسون" لحل نزاع متزايد الخطورة. لكن كما أزعم في كتابي المرتقب "صراع غير مقصود"، سيستغرق الأمر زمنا أطول كثيرا لإنهاء تصعيد الصراع الصيني الأمريكي.
كانت العولمة دوما مصطلحا جذابا يبحث عن نظرية. صحيح أن التجارة كانت المادة اللاصقة التي عززت تكامل الاقتصاد العالمي. لكنها لم تكن المد المرتفع الذي رفع كل القوارب. بينما تكـتـنـف العالم أزمات عصيبة، مثل تغير المناخ، والأوبئة، وحرب جديدة صادمة في أوروبا ـ فضلا عن فجوات التفاوت المتزايدة الاتساع وما يرتبط بها من توترات اجتماعية وسياسية ـ أصبح الدفاع عن العولمة في حالة يـرثى لها. وستكون الصين أكبر الخاسرين.

الأكثر قراءة