الطفيلي: ضحينا بأنفسنا خدمة لمصلحة إيران
كلما تكلم الرجل زاد كلامه كشفا للحقائق، وفضحا للأكاذيب والأوهام، وإيلاما لأكثر من جهة داخل لبنان وخارجها، هذا حال ابن مدينة بعلبك في البقاع جنوب لبنان صبحي الطفيلي، أول أمين عام لتنظيم حزب الله اللبناني، ما بين 1989 و1991. وأحد قيادات الصف الأول، الذين يعود لهم الفضل في نشأة حزب الله، فقد تولى متابعة مسار الحزب، منذ كان مجرد خاطرة وفكرة حتى استوى تنظيما مكتمل الهياكل والأركان.
بعد لبنان والنجف في العراق، وجد تلميذ محمد باقر الصدر نفسه في إيران لاستكمال دراسته، وقد تزامن ذلك مع اندلاع الثورة الإيرانية، في 1979، حيث حضر يومياتها من كثب. في العام ذاته، تولى مهمة تأسيس "تجمع علماء المسلمين" التي كانت سبب مشاركته في "المؤتمر الأول للمستضعفين" في طهران، في 1982، ما أتاح له فرصة اللقاء بالمرشد الأعلى للثورة في إيران، من أجل التباحث والتنسيق بشأن دعم ومساندة لبنان ضد الغزو. فكانت فكرة الخميني إرسال طلائع قوات الحرس الثوري التي وصلت بعد توقف الحرب، لتنقلب الخطة إلى تدريب عسكري للبنانيين الشيعة، تحولت مع مرور الوقت إلى ولادة تنظيم حزب الله بوصفه ممثلا إسلاميا للطائفة الشيعية في لبنان.
أجبر الرجل، بعد ثلاثة أعوام "1991"، على الاستقالة من قيادة الحزب، لتولي الشيخ عباس الموسوي القيادة، لسبعة أشهر فقط، ثم جاء حسن نصر الله من حينه حتى اليوم. شكلت ثورة الجياع التي توجها بإعلان العصيان المدني أواسط 1997، احتجاجا على تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للشيعة في لبنان، سببا في قرار فصله نهائيا من الانتماء لحزب الله، مطلع 1998.
تمثل هذه السردية جواب حزب الله عن أسباب تنحية شخصية قيادية مؤثرة بكاريزما مميزة من مقدمة الركب، فيما الحقيقة تفاصيل أخرى غير ما يحكى تماما. يتحدث الرجل، خلال أعوام وجوده على رأس الحزب، عن توتر كبير في العلاقة مع الإيرانيين، بسبب رفضه أن يكون تابعا لهم. فضلا عن خيبة أمله من علي خامنئي المرشد الأعلى الجديد لإيران، الذي لم يكن مقنعا، مثل سلفه الخميني، خلال لقاء به في طهران في 1990.
كان رفض الطفيلي للولاء المطلق سبب امتعاض طهران، بعدما وصل الطرفان إلى مفترق الطرق، بسبب شخصية صبحي، حيث يقول، "قلت مرارا للإيرانيين إنه عندما تصطدم مصلحتكم مع قناعتي سأغلب الأخيرة، ولن أكون أبدا عميلا لإيران ولسياستها، أنا أخوكم وشريككم لا أكثر ولا أقل". وزادت قيادة نصر الله الوضع تأزيما، نتيجة اختلاف الرجلين في شكل وطبيعة العلاقة بين الحزب وطهران، حيث مرت الأمور، كما جاء على لسان الطفيلي، بـ "محطات كثيرة جدا ومؤلمة جدا"، معترضا على مشاركة الحزب في الانتخابات، معلنا رفضه القاطع دخول الحزب اللعبة السياسة، بأمر من إيران.
اصطف الرجل في موقع المعارض لسياسات حزب الله، ومن ورائه إيران، في لبنان والمنطقة العربية، منذ 1993. وظل منسجما مع قناعاته التي لم يزدها تعاقب الأيام والأعوام إلا قوة ورسوخا وثباتا. يردد الطفيلي، في الأعوام الأخيرة، خلاصة مفادها أن "حزب الله انحرف عن مسار المقاومة بأوامر إيرانية غير قابلة للنقاش"، ويضيف في السياق ذاته في حوار آخر "... مع الأسف نحن قررنا أن نضحي بأنفسنا خدمة لمصلحة في إيران".
يحرص على ملاحقة زلات الحزب واحدة تلو الأخرى، وبالنتيجة إسقاط الأساطير المؤسسة لشرعية الحزب، فالرجل يعلن بأن "تدخل حزب الله وإيران في سورية خطأ فادح، وسيأتي بهزيمة نكراء للشيعة لا يستطيعون تحملها". وجدد التأكيد، قبل أيام فقط "30 تموز (يوليو)، على أن "حزب الله قاتل السنة والمدنيين في سورية وليس تنظيم الدولة داعش". وأضاف في السياق ذاته "حزب الله الذي شارك في الفتنة السورية منذ بدايتها، أي قبل ولادة التيارات المتشددة بأعوام، تحت حجج وتبريرات متعددة ومتنوعة، سيحمل إرث كثير من الدماء في سورية ولبنان".
يرى هذا الثائر المتمرد أن النظام في طهران حول حزب الله إلى أداة وظيفية، لتحقيق مصالحه في المنطقة، ومضي يقول بأن "إيران اليوم هي الأكثر نفوذا وتأثيرا في لبنان، لكنها مع الأسف لا ترى مصلحتها في قيام الدولة ونهوض الاقتصاد والعمران، وإنما في ضعفها وتفككها ودمار اقتصادها ونشر الفقر والجوع والفوضى فيها". فمن منظور الطفيلي تظل "مصلحة إيران هي ألا يبقى شعب سوري ولا عراقي ولا لبناني، والذين يرون أنهم سيعيشون إذا ماتت المنطقة، ولذلك فإن السياسة الإيرانية قاتلة ومدمرة".
يصف ما يجري في لبنان بأنه عملية دمار بقيادة إيران، فالأمريكيون، في اتهام قاس ومبطن، تركوا وظيفة التخريب حتى لا يلوثوا أيديهم، طالما لديهم خادم مستعد أن ينفذ ما يريدون دون أن يظهروا في الواجهة. فكل المصائب التي وقعت في لبنان تتحمل إيران الجزء الأوفر منها، بصفتها صاحبة النفوذ الأكبر. وبلغ به امتعاضه من إيران درجة التعليق على اغتيال قاسم سليماني بقوله، "نأمل بأن يأتي مقتله بالفرج على المساكين والشعوب المسحوقة تحت الغطرسة الأمريكية وجنون العظمة الإيرانية".
خلف حضور يوميات الثورة في إيران وقعا خاصا في نفسه، قبل أن يكتشف أن الثورة ذاتها قد أكلت أبناءها، بعدما انحرفت عن مسارها، وتحولت إلى جمهورية استبدادية تحكمية. كل ذلك دفعه إلى البحث عميقا في النصوص المؤسسة، حيث توصل إلى بطلان نظرية "ولاية الفقيه" التي يستمد منها النظام الإيراني شرعيته، وخلص إلى أن هذه الفكرة "لا تقوم على أساس فقهي متين، وليس لها ما يدعهما لا في القرآن ولا السنة".