«تصفير المشكلات» بوصلة السياسة الخارجية في المنطقة
تشهد السياسة الخارجية الإقليمية ومنها التركية تحولا كبيرا، نتيجة للمتغيرات والوقائع التي تفرض نفسها على المنطقة والعالم، لتتخذ خطوة إيجابية نحو كيانات ودول كانت العلاقة معها فاترة، ووصلت مع بعضها إلى حدود القطيعة، وكان من المتوقع أن تشهد العلاقة التركية - الإسرائيلية عودة إلى ما كانت عليه قبل حادثة سفينة "مرمرة"، المعروفة بأسطول الحرية، التي كانت متجهة إلى سواحل مدينة غزة الفلسطينية عام 2010، وكانت تقل مجموعة من نشطاء السلام، واعترضتها قوات إسرائيلية، ما تسبب في منع وصولها إلى وجهتها ووقوع قتلى وجرحى، وعلى الرغم من اعتذار رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك بنيامين نتنياهو في 2013، إلا أن العلاقة بقيت فاترة، ودون سفراء بين الدولتين، الجديد في الأمر اليوم أن تركيا وإسرائيل أعادتا العلاقات كاملة مع بعضهما البعض، ويجري العمل على اختيار سفراء لتمثيل الدولتين، لكن السياسة الخارجية التركية أخذت منحى آخر في رغبتها بالمصالحات بعد تصريحات وزير خارجيتها الأخيرة، عن إمكانية إعادة العلاقات مع النظام السوري.
تسير تركيا على طريق العودة نحو سياسة أعلنها رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داوود أوغلو، تحت مسمى "صفر مشكلات"، أي تصفير الإشكالات جميعها مع الجوار والمحيط، فبعد قطيعة دامت لـ11 عاما مع الجارة السورية، أكد وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو على ضرورة "تحقيق مصالحة بين المعارضة والنظام في سورية، بطريقة ما"، ليكشف لاحقا عن "لقاء قصير" جمعه قبل عشرة أشهر مع نظيره السوري فيصل المقداد، في بلجراد عاصمة صربيا، قبل أشهر عدة على هامش اجتماع "حركة عدم الانحياز" ولم يكن الاجتماع رسميا، إلا أنه يعد أول اتصال دبلوماسي بين تركيا والنظام السوري، منذ 2011، إلا أن الصمت السوري الرسمي يحكم الوضع السياسي للمنطقة في حال تم التقارب التركي السوري، لتشهد الأزمة السورية نقطة تحول جديدة، تخرجها إلى الاستقرار، وفقا للتفاهمات المقبلة.
كما صرح وزير الخارجية التركي أنه "لن يكون هناك سلام دائم في سورية دون تحقيق المصالحة"، مضيفا: "يجب أن تكون هناك إرادة قوية لمنع انقسام البلاد"، وأن "الإرادة التي يمكنها السيطرة على أراضي البلاد كلها لا تقوم إلا من خلال وحدة الصف"، هذه التصريحات أشعلت موجة من الغضب والاستياء بين صفوف المعارضة السورية، التي كانت تعد تركيا الملاذ الأخير لها، لتنظم المعارضة السورية احتجاجات شعبية غاضبة في المدن والمناطق الحدودية، في ريف حلب الشمالي ومحافظة إدلب، رفعت لافتات كتب عليها "ضامن، وليس وصيا"، وذلك في مدينة الباب شرقي حلب، في إشارة إلى أن الوجود التركي في سورية هو ضامن لوقف إطلاق النار، وليس وصيا على أبناء الشعب السوري ومصيره.
لم تقتصر التصريحات على الوزير مولود تشاووش أوغلو، بل تبعتها تصريحات أدلى بها مقربون من الرئيس التركي، كان آخرها، تصريحات جاءت على لسان نائب رئيس الحزب الحاكم، حياتي يازجي في تركيا، الذي قال: "إن العلاقات مع دمشق قد تتطور وترتقي إلى مستوى أعلى، وتصبح علاقات مباشرة"، مشددا في حديث لوسائل إعلامية تركية على "أن أهم خطوة لحل النزاعات هي الحوار"، مضيفا "إما حوار بشكل مباشر أو غير مباشر، حتى اليوم كان الحوار يتم بطريقة غير مباشرة عند مستوى محدد، واليوم ارتفع هذا المستوى بعض الشيء والمناخ، الذي سيتشكل بارتفاعه أكثر في المستقبل، سيسهم في الخروج من هذا المستنقع القائم في سورية منذ 11 عاما".
تركيا التي قدمت، عقب عام 2011، دعما قويا سياسيا وعسكريا للمعارضة السورية، من أجل إسقاط النظام، وبقيت على هذا المسار، إلى أن تدخلت روسيا عسكريا في 2015، وضحت تصريحات وزير خارجيتها، من خلال الرد على المعارضة السورية، حيث جاء بيان وزارة الخارجية التركي أخيرا، ليعطي رسالة مفادها أن "السوريين أساؤوا فهم الموضوع"، كما وضح البيان أن تركيا لعبت دورا رائدا في الحفاظ على وقف إطلاق النار على الأرض، وتشكيل اللجنة الدستورية عبر عمليتي أستانا وجنيف، وقدمت الدعم الكامل للمعارضة ولجنة التفاوض في العملية السياسية، كما أنها - بحسب التوضيح - توفر الحماية المؤقتة لملايين السوريين، بالإسهام الفعال في الجهود المبذولة لتهيئة الظروف المناسبة للعودة الطوعية والآمنة للاجئين وإيجاد حل للنزاع، وفقا لخريطة الطريق المنصوص عليها في قرار مجلس الأمن الدولي 2254.
تصريحات وزير الخارجية التركي جاءت في توقيت تغير سياسي كبير يلبي طموحات المرحلة بالنسبة لأنقرة، التي فضلت التقارب مع موسكو أخيرا، باتخاذ موقف شبه محايد من الحرب الروسية – الأوكرانية، على الرغم من الزيارة الأخيرة للرئيس التركي لكييف، خصوصا أن المصالح الروسية التركية متعارضة في سورية، حيث تقدم موسكو دعما كبيرا للرئيس بشار الأسد في مواجهة مجموعات مدعومة جزئيا من أنقرة، وبحسب صحيفة "ديلي صباح" التركية، فإن اللقاء، الذي استمر أكثر من أربع ساعات بين بوتين وأردوغان، خلص إلى اتفاق بين الجانبين على "العمل معا" في سورية وليبيا، على الرغم من أنهما يدعمان أطرافا متعارضة، دون مزيد من التفاصيل.
وقد ورد أن الرئيس الروسي دعا الأطراف إلى الاجتماع لإجراء مناقشات بين الجانبين التركي والسوري، إلا أن المصادر أضافت أن أنقرة من جهتها، أكدت أن "الوقت مبكر" لعقد هذا الاجتماع، لكنها لم تستبعد أن تتم محادثات هاتفية بين أردوغان والأسد.
كما صرح الوزير التركي بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عرض على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في قمة "سوتشي" الأخيرة التواصل مع نظام الأسد، من أجل حل المشكلات الأمنية في الشمال السوري، لكنه أضاف أن الرئيس التركي "فضل البقاء على التواصل الاستخباراتي فقط، كما أثير في قمة سوتشي بين الرئيسين قضية علاقة أنقرة بدمشق"، التي نوقشت لاحقا في الطائرة الرئاسية التركية العائدة إلى أنقرة.