10 تجارب ملهمة في عالم يتداعى .. أسرار نجاح قابلة للتصدير
العنوان: الإصلاح: كيف تنجو الأمم وتزدهر في عالم يتداعى؟
المؤلف: جوناثان تيبرمان المترجم: أشرف سليمان
الناشر: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب - سلسلة عالم المعرفة
العام: أيار (مايو) 2022 عدد الصفحات: 307
عن الكاتب:
جوناثان تيبرمان "1971" كاتب صحافي أمريكي من أصل كندي، درس الأدب الإنجليزي في جامعة يال في الولايات المتحدة الأمريكية، ثم القانون في جامعة أكسفورد البريطانية ثم جامعة نيويورك. شغل منصب نائب تحرير مجلة "نيوزيويك الدولية"، ثم مديرا لتحرير مجلة "الشؤون الخارجية" (الفورين أفيرز). تولى ابتداء من 2020 منصب المحرر العام في مجلة "السياسات الدولية" (فورين بوليسي). أجرى مقابلات صحافية مع عديد من القيادات والزعامات العالمية، ما أهله لنيل العضوية في مجلس العلاقات الخارجية في واشنطن.
في متن الكتاب
يعكس جوناثان تيبرمان التيار في كتابه "الإصلاح: كيف تزدهر الأمم في عالم يتداعى"، بتبني خطاب تفاؤلي في زمن سادت فيه السوداوية والتشاؤم من تردي الأوضاع العالمية، فنبرة الاستبشار لا تغادر صفحات الكتاب، بدءا من المقدمة حتى الخاتمة، مرورا بقصص عشر دول، في مناطق مختلفة من زوايا العالم، شكلت تفاصيل نجاحها، فصول الكتاب، الذي كان تحريره ثمار أزيد من مائة مقابلة صحافية، مستندا في ذلك إلى "البيانات التي تدعو إلى التفاؤل في لحظات انسداد الظلام".
يؤكد تيبرمان أنه مفرط في التفاؤل، "نحن نعيش، في النهاية، في عصر يتداعى بشكل غير مسبوق أو هكذا على الأقل يخبروننا باستمرار. افتح أي صحيفة أو مجلة، وتصفح العناوين الواقعية في مكتبتك، أو طالع أخبار التلفزيون، فسيتسلل إليك الوجوم الذي يمكن أن يتغلب عليك بسهولة". لكنه يبقى تفاؤلا مسحوبا، فدفوعات الرجل لا تستغرق في الأحلام بقدر ما تتأسس على معطيات واقعية، قوامها الأرقام والنسب والمؤشرات الاقتصادية والسياسية في رقع مختلفة من العالم.
تعززها فرضيات دقيقة من أجل التشخيص، أسهمت خبرته في الشؤون الدولية في بلورتها، وتبقى إحدى الفرضيات الأساسية للكتاب "أنه على الرغم من تباين تفاصيل المشكلات التي تعصف بالعالم حاليا، فإنها تشترك في سبب أساسي هو فشل السياسيين في القيادة. وبشكل أكثر تحديدا، ينبع معظمها من فشل قادتنا في معالجة عشر مشكلات كبرى بشكل ملائم، نصفها مشكلات سياسية، ونصفها الآخر مشكلات اقتصادية".
يدقق الخبير أكثر في فرضياته، بتأكيده أن معظم أزمات العالم، بما في ذلك السياسية، يكون منشؤها أو مثواها الاقتصاد. ويرتبط الفشل الاقتصادي لعدد من حكومات العالم بثلاثة عوامل مركزية: أولها، مطالبات الشعوب للحكومات بتحسين الوضع الاقتصادي، وظروف المعيشة، خلال فترة زمنية محدودة، لا تتناسب مع الخطط متوسطة وطويلة المدى التي تضعها الحكومات. وثانيها، ضعف مؤسسات الدولة التي تقوم على تنفيذ عملية التحول والانتقال إلى الوضع الجديد، على المستويين السياسي والاقتصادي. وثالثها، محدودية الموارد المالية المتوافرة لتمويل مرحلة التحول الحرجة، سياسيا واقتصاديا، وهو ما يتفاقم مع ارتفاع معدلات الفساد المالي والإداري، وزيادة حجم الديون الخارجية والمحلية.
يرفض الكاتب تحويل هذه العوامل إلى قدر محتوم على الأمم والشعوب، فالإحباط واليأس لن يجديا فتيلا، ولن يصلحا دولة ولا وطنا. لذا تولى في متن الكتاب نقل عشر تجارب إصلاحية "ناجحة" في قضايا تبدو للعامة والخاصة غير قابلة للحل، تتمثل في: اللامساواة والهجرة والتطرف والحروب الأهلية والفساد ومشكلة الموارد والطاقة وفخ الدخل المتوسط والعراقيل السياسية، ليثبت أن الوعي والإرادة - بالنسبة إلى رجال الدولة وصناع القرار - أساس نجاح مختلف هذه التجارب.
البرازيل .. معركة من أجل المساواة
أول تجارب النجاح الملهمة للكاتب حدث في البرازيل 2002، بعد انتخاب لولا دا سيلفا الزعيم العمالي رئيسا للبلاد، الذي اختار الانسلاخ من الأيديولوجيا "سياسة اقتصادية يسارية" لمصلحة سياسات تعود بالنفع العام على البلاد والعباد، ما حول الرجل من مجرد سياسي ومناضل نقابي إلى "مصلح عظيم" ذاع اسمه في الأمصار.
قرر دا سيلفا التمرد على توجيهات الخبراء وتوصيات المؤسسات المالية الدولية، برفضه تزويد الفقراء بالسلع أو الخدمات، كما فعلت معظم برامج التنمية في ذلك الوقت. وبدلا عن ذلك فضل الاطلاع بشيء أكثر جرأة، تمثل في الدعم النقدي المباشر للأسر، وذلك من خلال برنامج "صندوق الأسرة" الذي يمنح الفقراء دعما ماليا مباشرا، شريطة التقيد بقائمة الشروط المحددة قصد الاستفادة المعينة "تلقيح الصغار، تمدرس الأطفال، صحة الأمومة...".
وكانت النتائج مذهلة، بعد وصول ثمار الصندوق إلى 14 مليون أسرة، فيما عده خبراء التنمية "أكبر تغيير مدته عشرة أعوام للتركيب الطبقي في البلاد منذ اليابان بعد الحرب العالمية الثانية". كل ذلك بأقل تكلفة، مقارنة بمعظم برامج الرعاية الاجتماعية الأخرى في البرازيل وغيرها.
بهذا تكون البرازيل الدولة الوحيدة - بحسب تيبرمان - التي "أظهرت على مدى الأعوام العشرة الماضية، أو نحو ذلك، أن هناك طريقة أفضل بكثير، وأقل راديكالية، وأكثر ملاءمة للسوق لمحاربة اللامساواة، وقد طبقت هذه الطريقة، ونجحت بالفعل".
كندا .. الضرورة تصنع هوية وطنية
تقدم وتخلف الدول رهين برؤى واختيارات قادتها، تلك خلاصة المغامرة الكندية في مجال الهجرة، التي اختار بيتر ترودو رئيس الوزراء، والد رئيس الوزراء الحالي، خوضها مكرها في ثاني أكبر دولة من حيث المساحة، بينما لا يتعدى عدد السكان 1/10 سكان جارتها الجنوبية، الولايات المتحدة، ما يعني أن "الفضيلة الكندية (الهجرة) ولدت من الضرورة".
يوجد في كندا اليوم واحد من أعلى معدلات الهجرة - نسبة إلى عدد السكان - في العالم، فأكثر من 20 في المائة من السكان ولدوا في الخارج، ومن المتوقع أن ترتفع النسبة إلى 1/4 السكان بحلول 2031. وتمتلك الدولة حاليا أعلى معدل تجنيس في العالم، حيث أصبح 85 في المائة من المقيمين الدائمين المؤهلين مواطنين كنديين.
كان ذلك ثمرة قيادة ترودو السياسي الذي أقنع مواطني البلاد بأن الهجرة ضرورة، وضرورة جيدة في الوقت نفسه. لقد علمت أوتاوا الكنديين أن "الهجرة ليست خطأ في النظام السياسي والاجتماعي لدولهم، لكنها سمة أساسية، فهي مصدر أساسي لهوية الأمة ونجاحها الملحوظ". ولا سيما بعد قراره التاريخي 1971، بتحويل هوية كندا الأساسية من دولة ثنائية الثقافة إلى دولة متعددة الثقافات، وإنشاء وزارة جديدة للتعددية الثقافية، وهي الأولى من نوعها في العالم، عملت على تذكية شعار "التعددية الثقافية هي جوهر الهوية الكندية".
إندونيسيا .. الثورة الناعمة ضد التطرف
اكتشف الإندونيسيون في ربيع 1998، بعد الرحيل الاضطراري للرئيس محمد سوهارتو، الذي حكم بقبضة حديدية على مدار 31 عاما، أن البلاد متجهة نحو الكارثة على الأصعدة كافة، سياسية واقتصادية واجتماعية. وذهبت توقعات المراقبين إلى أن "الأمة الإندونيسية على وشك الاحتراق"، فهذا الأرخبيل الضخم الفقير، 17500 جزيرة متناثرة على أكثر من ثلاثة آلاف ميل في المحيط، على وشك الانفجار والتفكك على غرار البلقان، أو استفراد أقلية دينية متطرفة بالحكم، لتصبح إيران آسيوية على بحر أندامان.
لم يتحقق أي الاحتمالين، فبدل الانزلاق إلى براثن الانشطار أو التطرف، صارت رابع دولة في العالم من حيث عدد السكان إحدى أكثر الديمقراطيات نجاحا، وانتقلت من أكثر الدول العالم مركزية إلى تجربة رائدة في تطبيق اللامركزية، فلم تترك العاصمة جاكرتا لنفسها سوى قطاعات الدفاع والعدل والشؤون الدينية والدبلوماسية والاقتصاد والمالية.
ما كان ليتحقق ذلك لولا زعماء إندونيسيا الديمقراطيون، وبالدرجة الأولى الجنرال المتقاعد سوسيلو يودويونو، وبدرجة أقل الرئيىسان وحيد وميجاواتي، الذين تعلموا من التاريخ الديكتاتوري "أن منهج العقاب المبالغ فيه يؤجج فقط الاستياء الذي يغذي التطرف في المقام الأول، ومن ثم فقد خاضت إندونيسيا الحرب ضد الإرهاب بدقة غير مألوفة، ومنتهى الحرص". إذ بدل الاعتماد على الجيش، ذي الماضي الأسود، خلال حكم سوهارتو، تعاملت الحكومة مع الإرهاب باعتباره مشكلة إنفاذ القانون أكثر من كونها مشكلة عسكرية، واستعانت بقوات الشرطة الوطنية، تحديدا الوحدة 88 الخاصة بقضايا الإرهاب.
رواندا .. مصالحة وفقا لقواعد الأجداد
كافح بول كاجامي من أجل إعادة إحياء أمة عدها البنك الدولي "أمة تموت"، بعدما لقي أزيد من 40 في المائة من إجمالي السكان حتفهم أو شردوا، خلال الحرب القبلية بين التوتسي والهوتو "1990 - 1993"، ما صير الدولة - كما جاء على لسان كاجامي خلال أحد حوارات مع المؤلف - "أرضا للفوضى والموت واليأس".
دون أدنى اعتبار لباقي المشكلات، كانت معضلة البحث عن الكيفية التي يمكن بها دمج النسيج الاجتماعي للأمة في كيان واحد مرة أخرى، وأن "تبرئ جراح الحرب أو على الأقل كيها جيدا، حتى تتمكن البلاد من تجنب مزيد من إراقة الدماء"، أول الرهانات التي أدرك الزعيم الرواندي أن حلها بمنزلة المفتاح السحري لفك بقية المشكلات الأخرى "الفقر، التعليم، الصحة، البنية التحتية، الرعاية الاجتماعية....".
اختارت رواندا تجاهل مختلف الأساليب الموجودة في المصالحة، ولا سيما أن شروط تفعيلها غير متحققة "غياب السجون، الأثر الاقتصادي..."، وحاولت اتباع منهج جديد تماما، أساسه الاعتماد على آلية عريقة، تعود إلى زمن ما قبل الاستعمار، لحل النزاعات المعروفة باسم غاتشاتشا "العدالة على العشب". ترمي هذه الأخيرة إلى "شيء أكثر من العدالة على النمط الغربي، وقد شددت الغاتشاتشا الرواندية على إعادة إدماج المخالفين في مجتمعاتهم".
هكذا نجحت رواند في التحول إلى دولة لا تقوم على التمييز العرقي، حيث جرى التخلي عن الانقسامات القديمة، وأصبح شعار الدولة الجديدة "نحن جميعا روانديون الآن".
كوريا الجنوبية .. أرنب سباق صار بطلا
تمكنت كوريا الجنوبية من صناعة استثناء نادر، إذ "لم تنتقل من الفقر إلى الثراء فقط، بل إنها تنمو بشكل أسرع وفترة أطول من أي دولة أخرى في العالم". حدث هذا في وقت قياسي، فحتى بداية الستينيات لم تكن شيئا مذكورا، حيث كانت أفقر من بوليفيا أو غانا أو العراق... ثم قفزت لتصبح سابع أكبر دولة مصدرة في العالم. وتفتخر بإجمالي ناتج محلي يبلغ ترتيبه 13 في العالم، وتنافس إيطاليا ونيوزيلندا في نصيب الفرد من الثروة.
يلخص المؤلف التجربة الكورية في فقرة معبرة، مؤكدا أنها "فعلت ذلك من خلال توسيع قاعدتها الاقتصادية بطريقة صحيحة لأكثر من خمسة عقود، وديمومة هذا النمو الاقتصادي شيء نادر للغاية، فمعظم الدول تجري، لكنهم ليسوا عدائي مارثون، وفي حين إن كثيرا منهم تمكنوا من إخراج أنفسهم من براثن الفقر المدقع في نصف القرن الماضي، فإن قلة قليلة منهم - تبلغ 13 دولة فقط - عرفت كيف تحافظ على سرعة فرارها، فيما توقف السواد الأعظم بعد فترة وجيزة، عندما دخلوا فخ الدخل المتوسط، وبعضهم قد ارتد إلى حالة البؤس".
زمنيا، تقسم قصة الصعود الكوري إلى ثلاث مراحل أساسية: الديكتاتورية التنموية، مع الجنرال بارك تشونج، وانطلقت ثمانية أعوام بعد انتهاء الحرب الكورية، وكان أساسها الصناعات التصديرية. ثم التحول إلى الديمقراطية، أواخر حقبة الثمانينيات، بتنظيم انتخابات رئاسية مباشرة، وتعزيز الإصلاحات السياسية والاقتصادية في الدولة. وأخيرا، مرحلة التحول إلى الليبرالية التي أعطت التحرر الاقتصادي، بدءا من 1997.
تحضر في الكتاب معركة سنغافورة مع الفساد، ففي القصة دورس وعبر لحكومات العالم للتصدي لآفة تحاصر تقدم ونهضة الشعوب والأمم. ويختار تجربة بوتسوانا الرائدة في التغلب على لعنة الموارد، فعصر الألماس لا محالة سينتهي، ما دفع أبناء الدولة إلى الاجتهاد لتقديم الإجابة عن سؤال "ماذا سنفعل لأنفسنا في المستقبل؟". ويحدثك الفصل السابع عن حكاية النفط الصخري، ومبررات نجاح تلك الثورة في الولايات المتحدة فقط، دون باقي دول العالم. ويحكي قصة الاستثناء السياسي في المكسيك، "تحالف المكسيك" الذي أدى إلى تحقيق واحدة من أكثر الإصلاحات الاقتصادية طموحا في الدولة.
قد يبدو انتقاء هذه التجارب بعينها في نظر كثيرين اعتباطيا، بيد أن المسألة قطعا غير ذلك. فهناك - باستمرار - قاسم مشترك، يحضر بدرجات متفاوتة بحسب كل تجربة على حدة، إنه العنصر البشري الذي يحلم بالتغيير ثم يبلوره في رؤى وطنية، فيستنهض العزائم والهمم للإنجاز والتنفيذ، لحظتها ينطلق السباق مع الزمن لبناء المستقبل ودخول التاريخ.
هكذا تكون أقوى رسالة يبثها المؤلف موجهة إلى الأمم، مفادها أن باب الفعل والإنجاز مفتوح دوما، ولا سيما أمام الشعوب المبدعة والخلاقة التي تؤمن بقدرتها على صناعة المستقبل، وتجترح لأجل ذلك ألف سبيل، بحثا عن التميز والتفرد.