الهند والحرب الأوكرانية .. مغانم الحرب الهجينة

الهند والحرب الأوكرانية .. مغانم الحرب الهجينة
الهند والحرب الأوكرانية .. مغانم الحرب الهجينة

تتجه الهند لتصبح أكبر الرابحين من الحرب الدائرة في أوكرانيا، فنيودلهي من العواصم القليلة في العالم التي تمكنت من فرض موقفها "الحيادي" على الأطراف المشاركة في الحرب. واستطاعت بإتقانها لعبة المصالح والمنافع في صراع الضدين، أن تمسك عصا الحياد المنتج من المنتصف، ما منحها أفضلية كسب مغانم الحرب الهجينة، الاقتصادية والتجارية والعلمية والتكنولوجية والمالية، دون الاصطفاف في أي تحالفات رسمية.
يعد تركيز الهند الدائم على خيار "الاستقلالية الاستراتيجية" معطى محوري ساعدها في البقاء خارج دائرة التصنيف، وسمح لها بالتحرك في الاتجاهين، والحفاظ على علاقاتها متينة مع الطرفين، روسيا والغرب معا. وتحدث مراقبون، مع اشتداد أوار الحرب، عن فرص الهند في دعم عملية الوساطة، ولما لا التفاوض والحوار، بين موسكو وكييف. ولا سيما أن للبلد سابق تجربة بهذا الشأن على الصعيد الدولي، فرئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو، كان أحد مؤسسي حركة عدم الانحياز العالمية، عام 1961، إحدى النتائج المباشرة للحرب الباردة، بين حلف وارسو "المعسكر الشرقي" وحلف الناتو "المعسكر الغربي".
روسيا .. شرعية من زمن الحرب الباردة
شكل التصويت على قرارات الأمم المتحدة أول محطة لاختيار الموقف الهندي في الأزمة الأوكرانية الروسية، سجلت فيه نيودلهي امتناعها عن التصويت على قرار مجلس الأمن بتاريخ 25 فبراير (شباط)، وقرار الجمعية العامة في 2 مارس (آذار)، اللذين تبنيا "إدانة العدوان الروسي على أوكرانيا". ونظير ذلك انحازت نحو خطاب دبلوماسي تقليدي حذر، بكلمات عامة "القلق العميق" و"احترام القانون الدولي" و"السلمية في حل النزاعات" .. دون الإشارة للدولة بشكل مباشر وصريح.
الموقف الهندي غير مفاجئ، بالنظر للروابط الوثيقة والشراكة القديمة مع روسيا، التي تدفعها نحو الامتناع عن التصويت، على قرارات الدول الغربية ضد روسيا في الأمم المتحدة. وسبق لها أن أعرضت عن التصويت في مارس 2014 على قرار أممي يتعلق "بالسلامة الإقليمية والداعم لوحدة أراضي أوكرانيا"، بعد ضم شبه جزيرة القرم. وقد عد حينها "ردا لجميل روسيا" عن الدعم الدبلوماسي المستمر في الأمم المتحدة بشأن النزاع حول كشمير بين إسلام آباد ونيودلهي.
بعيدا عن العائد الدبلوماسي، غنمت الهند إمدادات النفط والفحم الروسية بأسعار منخفضة، منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، إذ سبق لوزير خارجية البلد أن صرح، بأن الهند تستورد النفط الروسي خلال شهر بكمية أقل مما تفعل أوروبا في يوم واحد، لكن الهند زادت واردات النفط من روسيا بدرجة هائلة، إذ فقز الرقم من 30 ألفا قبل الحرب إلى معدل مليون برميل يوميا، بعد فرض العقوبات الغربية على موسكو، وتكرر الوضع نفسه مع الفحم. بذلك تصبح الهند مصبا مهما لاستيعاب فائض المواد الطاقية الناجم عن المقاطعة الأوروبية، بأبخس الأثمان.
تمتد الامتيازات إلى المجال العسكري، الذي تبلغ نسبة المعدات العسكرية الروسية في الهند 85 في المائة، وفق أحدث الأحداث، إذ يتوقع أن يتجه السلاح الروسي المتقدم، وتحديدا المقاتلات من الجيل الخامس في قوات الدفاع الجوي الصاروخي، إلى الهند في شكل توطينات من خلال شراكات في الإنتاج. ناهيك عن موسكو نيودلهي امتياز دمج الأسلحة المصنوعة محليا– عن طريق الاشتراك- في الطائرات المقاتلة والسفن البحرية، في المقابل لا تسمح واشنطن ولا باريس بحدوث ذلك.
ودخل الطرفان في نظام صرف العملات "الروبية/ الروبل"، الذي يشكل حلا بديلا لإتمام المعاملات مع البنوك الروسية الخاضعة للعقوبات، رغم الضغوط الأمريكية الرهيبة على الهند، لوقف "التحايل على نظام العقوبات الغربية"، التي لم تعرها كثير اهتمام. فقد سمح بنك الاحتياطي الهندي، في يوليو الماضي، بإصدار فواتير ومدفوعات التجارة الدولية بالروبية، ما يسهل من زيادة الأعمال الثنائية مع روسيا.
يبقى العائد الأكبر أن الهند نفسها، في هذه الحرب، مصطفا إلى جانب بكين التي حافظت على مسافة أمان تجاهها، منذ الاشتباك الحدود العنيف، يونيو 2020، الذي أودى بحياة 20 جنديا هنديا. ما حدا بالصين قائدة تجمع البريكس لخلخلة النظام العالمي، نحو التحرك لاستعادة العلاقات الثنائية مع الهند، فقد صرح ممثل الدبلوماسية الصيني وانج يي، بأن "العالم سينصت عندما تتحدث الصين والهند بصوت واحد". ما يرجح أن يدفع ضغط التعاون الاستراتيجي الطرفين، نحو تكرار سيناريو المصالحة الحدودية بين روسيا والصين، للمضي قدما من أجل بلورة نظام عالمي جديد.
أمريكا .. بحثا عن اصطفاف جديد
كانت الهند، منذ زمن الحرب الباردة، مطمئنة أكثر للاتحاد السوفياتي، وذلك بسبب دعم واشنطن الواضح لباكستان. حاول البيت الأبيض، مع إدارة أوباما، معالجة هذه الوضعية، لحاجة الولايات المتحدة الماسة إلى الهند في تنفيذ الاستراتيجية الأمريكية، لمواجهة التنين الصيني في المحيطين الهادئ والهندي. وقبل ذلك، خوفا من استمالة الصين لها، مع توالي الإشارات الصادرة من بكين عن رغبتها الصادقة في ذلك، بعد نجاحها على مستوى تحالف البريكس "2006".
سارعت واشنطن درءا لهذا السيناريو إلى إقامة شراكة خاصة مع نيودلهي، بإشراكها في تحالف أمني رباعي إلى جانب أستراليا واليابان عام 2007، ينظر إليه كوسيلة لكبح جماع طموحات الصين الإقليمية. ومن عجيب الأحداث أن تحالف كواد عقد قمتين، الأولى افتراضية في 3 مارس، والثانية في مدينة طوكيو بتاريخ 24 مايو، أي زمن اشتداد الحرب، دون أن ينجح القادة في إقناع الهند بدعم موقفهم، حيث اكتفى بيان القمة بالإشارة إلى "النزاع والأزمة الإنسانية المأساوية المستمرة"، وخلا من أي إدانة أو تنديد بالعملية العسكرية الروسية.
ناهيك عن أن قمة السبع الكبرى التي انعقدت في ألمانيا، لم تتخذ أي موقف علني ضد الهند، حيث حضرت وشاركت بشكل عادي في أشغال القمة. على الرغم من زيادة الحكومة الهندية وارداتها من الخامات الروسية المختلفة بنحو 25 ضعفا، ما يعني توفير مورد مالي مهم لموسكو، يحد من تأثير سلاح عقوبات المعسكر الغربي عليها.
كل ذلك، حتى لا تخسر دول الناتو، وتحديدا الولايات المتحدة الأمريكية، الهند التي استطاعت أن تكسب ودها في العقود الأخيرة، حيث انتقلت إلى المعسكر الموالي للغرب بشكل أكثر وضوحا، ولا سيما ما يتعلق بالإصلاحات الاقتصادية وقضايا الأمن والدفاع. تحدث تقرير معهد ستوكهولم لبحوث السلام الدولي، الصادر ربيع 2022، عن تسجيل الصادرات الدفاعية الأمريكية نحو الهند ارتفاعا، مكن واشنطن من احتلال المركز الثالث، في قائمة موردي الأسلحة للحكومة الهندية، بنسبة 12 في المائة من حصة السوق.
تكشف سياسة التجاهل التي تتبناها الإدارة الأمريكية تجاه حكومة مودي، حيال مواقفه وقراراته بشأن الحرب الأوكرانية، عن رغبة جامحة في تحويل الهند من مجرد شريك نحو حليف موثوق به في المنطقة، فأمريكا تدرك، كما جاء على لسان جو بايدن، أنها غير قادرة على أن تبقى شرطي العالم، لذلك تسعى جاهدة إلى تعزيز صفوفها بحلفاء في مختلف مناطق العالم، حتى تضمن تعزيز نفوذها، وتوفير الحماية لمصالحها.
تبدو الهند حتى اللحظة ناجحة في "سياسية عدم الانحياز" بالسير على الحبلين، ما يسمح لها بجني الثمار من كلا الجانبين. لكن اتجاه النظام الدولي نحو مزيد من الاستقطاب، لا محالة سيحد من انتهازية الهند مستقبلا. لكن المؤكد أن هذه الانتهازية عبدت الطريق أمام نيودلهي لتفرض نفسها قوة عظمى مستقلة في أي نظام دولي قادم.

الأكثر قراءة