الجزائر وفرنسا .. ضبط إيقاع العلاقة
دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أخيرا، القيادة والشعب الجزائري إلى طي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة في العلاقات بين الدولتين، مبنية على الثقة والاحترام، بعد أن وقعا إعلانا مشتركا من أجل "شراكة متجددة" بعد 60 عاما من انتهاء الحرب واستقلال الجزائر، ليعلن الرئيس الفرنسي تشكيل لجنة مؤرخين مشتركة حول الاستعمار "بدون محظورات"، معتبرا الجزائر شريكا استراتيجيا له وزنه واعتباره، ولتقدير الدور المحوري الذي تؤديه الجزائر في المنطقة، فضلا عن العودة القوية للدبلوماسية الجزائرية على الساحة الدولية، فيما أشاد الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون بالنقاشات، التي وصفت بـ"الصريحة" مع الرئيس الفرنسي، المتهم جزائريا بالتشكيك "في وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار"، ليكون رد الجزائر اعتماد اللغة الإنجليزية كبديل للفرنسية في المناهج الدراسية.
وقال الرئيس الجزائري عن زيارة نظيره الفرنسي "إن الزيارة أتاحت تقاربا لم يكن ممكنا لولا شخصية الرئيس ماكرون"، بعد نحو عام من التوتر الدبلوماسي، الذي دفع الجزائر إلى الميل نحو روسيا، فمنذ اندلاع الحرب في أوكرانيا باتت الجزائر، وهي من بين أكبر عشرة منتجين للغاز في العالم، محاورا مرغوبا للغاية للأوروبيين الساعين إلى تقليل اعتمادهم على الغاز الروسي، ورغم تأكيد الرئاسة الفرنسية أن الغاز الجزائري "ليس موضوع الزيارة" وأنه "لن يتم الإعلان عن عقود كبرى أو مفاوضات مهمة"، إلا أن وفد ماكرون يشمل كاترين ماكجريجور المديرة التنفيذية لشركة "إنجي" العملاقة للطاقة.
إلى ذلك، دفعت التحولات الدولية والإقليمية الجزائر إلى إعادة النظر في عقيدتها الأمنية والعسكرية، ومراجعة ميثاق الشراكة الاستراتيجية مع روسيا، بهدف تطويره ليأخذ في الحسبان التحديات الجديدة في الجوار الإقليمي للجزائر، وفي إفريقيا، إذ تخضع الاتفاقية مع موسكو للمراجعة والتنقيح، حيث سيتم توسيعها لتصبح "شراكة استراتيجية معمقة وشاملة"، وتشمل مجالات أخرى غير التسليح والتعاون العسكري، وهي المجالات التي غفلت عنها وثيقة 2001، حيث سبق أن أعلنت وزارة الدفاع الروسية إجراء المناورات العسكرية "درع الصحراء 2022" مع الجزائر في ولاية بشار، خلال نوفمبر المقبل، بالتزامن مع احتفال الجزائر بمناسبتين الأولى هي الذكرى الـ60 للاستقلال، والثانية مرور ستة عقود من التعاون الاستراتيجي بين الجزائر وروسيا.
وتسعى الجزائر إلى تعزيز قدراتها الدفاعية التقليدية والإلكترونية، بتحقيق مجموعة من الأهداف، التي رصدها الجيش الجزائري، من خلال تنظيم مناورات "درع الصحراء 2022" مع القوات الروسية، وهي تعزيز قدراته الدفاعية لمواجهة التحديات الجديدة، وستخصص هذه المناورات للأعمال التكتيكية في مكافحة الإرهاب، وسيشارك فيها 80 جنديا روسيا، ونحو 80 جنديا جزائريا، في ولاية بشار، وفقا لوكالة "سبوتنيك" الروسية، فيما يحمل ميدان المناورات رمزية خاصة كونه موقعا سابقا للجيش الفرنسي، سبق استخدامه لتطوير أسلحة باليستية وقاذفات فضائية، واسترجعته الجزائر في 1967، كما يظهر أن السلطات الجزائرية، باختيار هذا الميدان بالذات، تريد توجيه رسالة إلى باريس مفادها أن المنطقة تدخل عهدا جديدا يتسم بأفول النفوذ الفرنسي في الإقليم، ونهاية عقيدة "فرانس أفريك" حتى في المستعمرات الفرنسية السابقة.
وتعد مناورات "درع الصحراء 2022" هي المناورات الثانية التي يجريها الجيشان الجزائري والروسي، بعد تلك التي أجرتها البحرية الجزائرية مع نظيرتها الروسية في البحر الأبيض المتوسط في نوفمبر 2021، لتعزيز الأمن الإقليمي، وتمحورت هذه المناورات حول المراقبة البحرية بمشاركة غواصات، وتمت محاكاة سيناريو معركة بحرية حقيقية ضد عدو في أعماق البحر، وأبدت الولايات المتحدة قلقها من تلك المناورات، على اعتبار أنها تعزز من النفوذ الروسي في شمال إفريقيا وفي الساحل وفي إفريقيا جنوب الصحراء، وهي مناطق نفوذ تقليدية لحلفاء واشنطن.
وترسيخا للندية من قبل الجزائر تجاه باريس في إطار هذه المعطيات، أجرت الجزائر مراجعة شاملة للعلاقات الجزائرية - الفرنسية، ولخريطة المصالح الفرنسية في الجزائر، انطلاقا من مبدأ "المراجعة الشاملة للعلاقة مع فرنسا"، ولعل البداية ستكون مع قرار مجلس الوزراء الجزائري إدراج اللغة الإنجليزية في مرحلة التعليم الابتدائي ابتداء من العام الدراسي المقبل.
إلى ذلك، تتهم الجزائر باريس بممارسة سياسة لإضعافها في الساحل وإفريقيا جنوب الصحراء، من خلال تحركها في هذا الاتجاه عبر نشر الفوضى في العمق الاستراتيجي للجزائر "مالي، والنيجر، وتشاد، وبوركينا فاسو"، ومحاولة إنهاك جيشها وإلهائه بسلسلة من الأزمات الأمنية في جوارها الإقليمي، وذلك ضمن مخطط أوسع يستهدف استدراج الجزائر إلى حروب استنزاف، حتى يسهل الانقضاض على الجبهة الداخلية وزعزعة استقرارها بـ"حروب الجيل الرابع"، كما حدث في 2019 عقب استقالة الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة، واندلاع الحراك الشعبي، حيث شهدت الجزائر آنذاك أكبر حملة تحريض ضد الجيش وقيادته، وضد مؤسسات الدولة ورموزها.
وتمثل الشراكة الاستراتيجية الجزائرية - الروسية بمفهومها الواسع، تنسيقا بين الدولتين في إفريقيا، قاعدته المصالح المشتركة، وفي مقدمتها إضعاف النفوذ الفرنسي في القارة السمراء، حيث سبق أن نجحت موسكو منذ أعوام في بناء شبكة من العلاقات الواسعة مع الدول الإفريقية، على حساب القوى الأوروبية، تحديدا فرنسا، ولا يقتصر الوجود الروسي في إفريقيا على الجانب العسكري، إذ يتسع ليشمل قطاعات أخرى مثل الزراعة، واستخدام الطاقة النووية لأغراض سلمية.
في السياق ذاته، هنالك خشية أوروبية من أن تستغل روسيا إخفاقات الجيش الفرنسي في منطقة الساحل وإفريقيا وجنوب الصحراء، لتملأ الفراغ، حيث توظف موسكو تنامي مشاعر العداء ضد القوات الفرنسية، وتروج لخطاب معاد للقوى الاستعمارية "الإمبريالية"، المتهمة بنهب ثروات القارة الإفريقية، وهي القوى ذاتها المسؤولة عن تخلف دول القارة، كما تستخدم روسيا في مواجهة فرنسا والغرب، "حروب الدعاية والدعاية المضادة على منصات التواصل الاجتماعي".
من جهتها، تشن المخابرات الفرنسية والأوروبية حملة دعائية ضد قوات "فاجنر" الخاصة الروسية، وتتهمها بالعمل ضد المعايير الديمقراطية الغربية، باعتبارها تساند الأنظمة الديكتاتورية في إفريقيا، وتؤيد الانقلابات العسكرية في القارة، على حد ذكرها، كما تروج المخابرات الفرنسية والغربية لصورة سوداوية لما سيكون عليه الإقليم بعد انسحابها، حيث ستسقط المنطقة في قبضة الجماعات الإرهابية، وفقا لهذا السيناريو.