بريطانيا .. طقوس لا تتقادم
يشاع أن تقدم الغرب قرين اعتناقه قيم الحداثة والتقدم وابتعاده عن التراث والتقليد، فشرط الالتحاق بمصاف الدول المتقدمة قرين الابتعاد عن القدامة لمصلحة الانصهار في الحداثة. تبقى هذه المعادلة نسبية إلى حد كبير، فالغرب المثخن بالحداثة غارق في التقاليد والطقوس، فالمتابع لمدى الالتزام بالقواعد والأعراف المتوارثة يبدو له الانتماء إلى الحداثة مجرد كلام عابر.
وحدث غير مرة، أن اضطر الأمم في الغرب إلى "اختراع التقاليد"، واللفظ هنا للمؤرخ البريطاني إريك هوبزباوم التي تحدث عن صناعة الشعوب والجماعات للتقاليد، لا تلبث مؤسسات "الدولة، الكنيسة..." أن تتولاها بالرعاية والاحتضان. هكذا تصبح أنظمة من الطقوس والشعائر العامة، مع مرور الزمن، عنصرا جوهريا في تشكيل الهوية في الوجدان والإحساس بالانتماء للأمة.
تعد وفاة الملكة البريطانية واقعة حية لهذه الحقيقة، فالمتابع لمجريات الأحداث اليومية في المملكة المتحدة، منذ إعلان الوفاة 8 سبتمبر، تراوده شكوك في أن كل هذا الهوس بالتقاليد، يحدث في نظام سياسي ابتدع الوثيقة العظمى للحقوق والحريات "المجنا كارتا" عام 1215، ونجحت الطبقة السياسية في المملكة في إعلان الحقوق، بعد الثورة المجيدة، 1688.
ما أن أعلن عن موت الملكة حتى بدا كل شيء جاهزا سلفا، فالجميع بات ملزما بالسير وفق تفاصيل خطة، سرية للعائلة الملكية، تعرف باسم "سقوط جسر لندن"، التي تتضمن كل مجريات الأيام العشرة التالية لوفاة الملكة، بما في ذلك المكان الذي سيوضع فيه النعش، وكيف سيعلن نبأ الوفاة، وكيف سيقضي الأمير الجديد أيامه الأولى بصفته ملكا.. باختصار، ترسم الأحداث التي ستعقب حادثة رحيل الملكة، ويشار إلى يوم الوفاة باسم D-Day، ويشار إلى كل يوم بعد ذلك باسم D+1 ... وهكذا دواليك.
رحيل الملكة اليزابيث صاحبة أطول حاكم بريطاني ظل على العرش، بعد تجاوز جدتها الكبرى فيكتوريا "63 عاما و216 يوما"، يكشف عن أوجه التقليدانية في نظام الحكم البريطاني. فمن المرتقب أن يقدم البريطانيون الذين عرفوا ملكة واحدة، فمن بين آخر أربعة رؤساء وزراء للحكومة في البلد، ولد ثلاثة منهم بعد جلوس اليزابيث على العرش، على إدخال تعديلات على النشيد الوطني للمملكة، من "حفظ الله الملكة" إلى "حفظ الله الملك". وستتغير الألقاب القانونية في المملكة، حيث سيصير كبار المحامين مستشارين للملك بدلا من مستشاري الملكة.
عملة البلاد بدورها سيلحقها التغيير، حيث سيوضع وجه الملك على العملات المعدنية المسكوكة والأوراق النقدية المطبوعة حديثا، وفق تقليد جرى العمل به، منذ استعادة النظام الملكي 1660 في أعقاب جمهورية أوليفر كرومويل، بناء على قاعدة تقتضي أن يظهر وجه الملك في الاتجاه المعاكس لوجه سلفه. على هذا الأساس، سيظهر الجانب الأيسر من وجه تشارلز بعدما تم إظهار الجانب الأيمن من وجه الملكة اليزابيث.
يظهر الوفاء للتقليد في الحرص على تغيير الرمز الملكي وشعار النبالة الملكي، وكانت الراحلة اختارت رمز "إي 2 آر"، الذي يظهر أسفل صورة لتاج الملك القديس إدوارد. عادة ما يستخدم في كل شيء، من زي الشرطة حتى صناديق البريد. مع توضيح بسيط مفاده أن تغيير الرمز على صناديق البريد سيشمل فقط الصناديق الجديدة، فيما يبقى رمز الملكة على آلاف الصناديق في جميع أنحاء البلاد، كما بقي عديد من رموز ملوك سابقين على الصناديق وضعت قبل تنصيب الملكة الراحلة.
قد تنفع التقاليد، بما تعنيه من مشروعية تاريخية، من تجاوز شكليات انتقال العرش من السلف إلى الخلف، لكنها قطعا لا تضمن ذلك أمام عقبات كبرى، في مملكة ذات تاريخ عريق ومتجذر. صحيح أن الملكة اليزابيث الثانية شغلت منصب الحاكم للمملكة المتحدة، التي تضم إنجلترا وويلز واسكتلندا وأيرلندا الشمالية، لكنها أيضا رئيسة رابطة الكومنولث التي يبقى مستقبلها واحدا من هذه القضايا العالقة، فلحظة تنصيب الملكة كان أعضاء الرابطة ثماني دول فقط، فيما الرقم الآن يصل إلى 38 جمهورية، يمثل عدد سكانها 1/3 من سكان العالم.
هكذا يجد الملك تشارلز الثالث نفسه أمام مشكلة استحقاق المنصب، فهذا المنصب لا يخضع للتوريث، وليست هناك آلية لاختيار الرئيس القادم للرابطة، ما يبقي المسألة غامضة تماما. وإن كان خبراء في النظام السياسي البريطاني يرجحون ألا ينتقل المنصب تلقائيا مع تنصيب الملك الجديد، وإنما عن طريق عملية ضغط دولية تمارسها لندن في أثناء امتلائها بالدبلوماسيين والرؤساء في الأيام اللاحقة على واقعة الوفاة.
واضح أن الملكة الراحلة كانت على وعي تام بحجم وتعقيدات هذه المشكلة، لذلك حافظت على مسافة الأمان منها. عكس ما كان عليه الحال حين تدخلت في مسألة منح صفة الملكة بدل الأميرة القرينة لزوجة الأمير تشارلز، فقد قطعت دابر الأقاويل في خطاب ألقته بمناسبة الذكرى 70 لاعتلائها العرش، حين قالت بكل وضوح: "عندما يصبح ولي العهد تشارلز ملكا، أعلم أنكم ستمنحونه ولزوجته كاميلا الدعم نفسه الذي قدمتموه لي، وتمنياتي الصادقة هي أنه عندما يحين ذلك الوقت، أن تعرف كاميلا باسم ملكة كونسورت لأنها تواصل خدمتها المخلصة".
يقف المتأمل فيما يجري داخل المملكة، في أعقاب حدث وفاة الملكة، عند حقيقة مفادها أن التقاليد والطقوس كانت أساس بناء الدولة الحديثة في أوروبا. فالنزعة الطقوسية حاضرة عند كل الشعوب والأمم، يبقى الفارق في كونها فاقعة بلا حجاب لدى أهل الشرق، فيما يتولى الغربيون إخفاءها بشعارات الحداثة والتنوير.