ليز تراس .. أزمة أحزاب لا مشكلة زعامات

ليز تراس .. أزمة أحزاب لا مشكلة زعامات

توقف قسري جديد لحكومة الملكة اليزابيث الثانية، قبل المحطة النهاية، أي موعد الانتخابات 2024، لاستبدال قائد الحكومة، حيث صارت ليز تراس رئيسة الوزراء خلفا لبوريس جونسون. إبدال للزعامة بحثا عن حلول لواحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في تاريخ البلاد، فلم يبلغ معدل التضخم 10,1 في المائة، منذ 40 عاما، مع توقعات بأن القادم أسوأ، بإطلالة شبح الركود، مع دخول فصل الشتاء.
رسميا، تسلمت ليزا تراس، الثلاثاء الماضي، مهام رئاسة الوزراء، بعد لقائها في قلعة بالمورال بالملكة التي كلفتها بتشكيل الحكومة. وللتاريخ، فقد كانت السيدة تراس من مؤيدي الجمهورية، فقبل 28 عاما، دعت في تجمع للطلاب الديمقراطيين الليبراليين، في جامعة أوكسفورد، إلى إجراء استفتاء على إلغاء الملكية البريطانية، "نحن لا نعتقد أن الناس يجب أن يولدوا ليحكموا".
تعاقب تراس على ست مهام وزارية (البيئة والغذاء والشؤون الريفية، المرأة والمساواة، التجارة الدولية، والخارجية...) في ظل ثلاثة رؤساء وزراء. وكان لتنوع القطاعات التي أشرفت عليها، انعكاس كبير في تطوير خبرتها وأدائها السياسي، ما ساعدها على بلوغ أعلى منصب سياسي في البلاد، على الرغم من صغر سنها "47 عاما". تبقى هذه العناصر ثانوية في نظر خصوم السيدة، فالحذاقة الإيديولوجية أو الانتهازية بلغة منتقديها، ركيزة محورية في سجل تراس الحافل بالمنجزات والأعطية.
يقدم غرماء رئيسة الوزراء المنعطفات الكبرى في سيرتها، دليلا تفسيريا للأداء النوعي والنجاح اللافت. ففي شبابها انقلبت من الحزب الديمقراطي الليبرالي، الذي كانت رئيسة له في جامعة أوكسفورد، إلى حزب المحافظين، أي من مرجعية سياسية تحررية نحو نقيضها تماما. وحديثا، أعرب تراس عن تأييدها البريطانيين الراغبين في الذهاب إلى أوكرانيا، للقتال ضد القوات الروسية، بعد طلب كييف المؤازرة من المعسكر الغربي، قبل أن تستدرك الأمر بلباقة.
وارتدت أيضا عن حملة بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، فقد كانت صاحبة مرافعات قوية ومقنعة قبل الاستفتاء، لمصلحة تأييد ومناصرة خيار الخروج النادي الأوروبي بأثر رجعي، بعدما أضحى حقيقة واقعية، معلنة أن التحذيرات بشأن الآثار الكارثية للمغادرة مبالغ فيها. واعترفت، في المقابل، بأن خيار الفراق بين لندن وبروكسيل أطلق العنان لفوائد جمة على المملكة.
تذبذب قناعة زعيمة حزب المحافظين انعكس بوضوح على الأسواق المالية البريطانية، فبعد الإعلان عن تولي ليز تراس قيادة الحزب، وبالنتيجة رئاسة وزراء بريطانيا، سجل الجنيه الاسترليني هبوطا قياسيا "0,14 في المائة" أمام الدولار الأمريكي، لم يبلغ منذ 1985. وقائع دفعت بالأسبوعية البريطانية العريقة "إيكونومست" التي تعكس عادة وجهات نظر خبراء الاقتصاد ورجال الأعمال، إلى إصدار حكم قاس على ثالث امرأة في رئاسة الوزراء، بعد مارجريت تاتشر "1979-1990" وتيريزا ماي "2016-2019"، معتبرة إياها "رئيسة وزراء دولة صغيرة في حقبة الدولة الكبيرة".
أكدت رئيسة الوزراء ما ذهبت إليه الصحيفة، بعد تراجعها عن مقترح التصدي لطوارئ ارتفاع تكلفة المعيشة، بمساندة القدرة الشرائية أو خفض الضرائب الذي يرفعه المحافظون، لتتبنى خيار تجميد الأسعار الذي يقدمه الحزب العمالي المعارض حلا، ما ينذر بموجة غضب ضد الزعيمة في صفوف أعضاء الحزب داخل البرلمان. وكعادتها دافعت تراس عن نكوصها، مبررا الأمر بقولها: "هذا وقت يتطلب منها أن نملك الجرأة. نحن نواجه أزمة طاقة.. وهذه التدخلات سيكون لها ثمن".
بعيدا عن المعارك السياسية داخل الحزبين العريقين المحافظين "1834" والعمال "1900"، التي يتوقع أن تخبو حدتها قليلا، حتى انقشاع مشاعر الحزن والأسى عن سماء المملكة بسبب وفاة الملكة اليزابيث، وبالنظر في الهوامش يتكشف أن الأزمة عارمة في مشهد سياسي تقليدي في المملكة، فمشكلات الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس ذات زمان، أكبر من أن تحل بتغيير الزعيم السياسي أو استبدال اللون الحزبي أو حتى بقرار قاس من حجم الخروج من الاتحاد الأوروبي.
تماشيا مع توترات المشهد الحزبي، تعيش المملكة على وقع حراك احتجاجي نقابي عمالي، أسهم في ولادة حملة "كفى يعني كفى" شلت إضراباتها مظاهر الحياة بعديد من القطاعات الحيوية في البلاد "السكك الحديدية، قطاع البريد، النقل البحري...". حركة أشبه بإعلان تمرد على الواقع السياسي، فخلال ستة أعوام، منذ التصويت لمصلحة الخروج من الاتحاد الأوروبي، اضطر البريطانيون إلى تغيير رئيس الوزراء أربع مرات "ديفيد كاميرون، تيريزا ماي، بوريس جونسون، وليز تراس" دون أن يتغير شيء في واقعهم المعيشي.
يقرأ مراقبون في هدير هذه الحركة المتصاعد، لولا حدث الوفاة الذي ستبطئه قليلا، دفعا بمكونات المشهد السياسي نحو مزيد من التأزيم، فلا يعقل أن يدفع حزب بشرعية تاريخية عريقة، أوشك على استكمال قرنين من الزمن، بشخصية بلا تصور واضح لإدارة بلد بأزمة مركبة، مشكلة الطاقة الناجمة عن الحرب في أوكرانيا، ومخلفات جائحة فيروس كورونا، وقبل ذلك تداعيات البريكست.
يرفع المحتجون خمسة مطالب أساسية، تمثل صورا لوضع اقتصادي مترد، جاءت تباعا كالتالي: أولا، زيادة حقيقية في الأجور، ثانيا، خفض فواتير الطاقة، ثالثا، إنهاء غلاء الغداء، رابعا، توفير منازل لائقة للجميع، أخيرا، فرض ضرائب على الأغنياء. تعيد هذه الحملة ذاكرة الساسة البريطانيين إلى زمن مارجريت تاتشر، مع إضرابات نقابة عمال مناجم الفحم، وكذا إضرابات "شتاء السخط" ضد حكومة الزعيم العمالي جميس كالاهان، ما بين عامي 1978 و1979.
تحتاج رئيسة الوزراء الجديدة ليز تراس إلى حدث ملهم لاستعادة ثقة البريطانيين في المشهد السياسي، على غرار نجاح تاتشر في طرد الأرجنتين من جزر فوكلاند، ما منحها ولاية ثانية بأريحية مطلقة. لكن زمن المرأتين مختلف تماما، فبريطانيا الأمس غير اليوم. وساسة أواخر القرن الـ20 (هيت، ويلسون، كالاهان، وتاتشر) غير زعماء الألفية الثالثة (براون، كاميرون، ماي، وجونسون)، وقبل ذلك كله إكراهات وتحديات المملكة المتحدة في الحاضر مغايرة لمشكلات وأزمات الماضي.

الأكثر قراءة