في ظل الأزمات الاقتصادية .. عجائب تقشفية تقود المشهد السياسي
كانت الطائرات تحوم فوق الإسكندرية شمال مصر، وعلى بعد 100 كيلومتر، استعدت دبابات القائد الألماني روميل لخوض معركة فاصلة أمام الداهية البريطاني مونتجمري، لتحديد مصير الحرب العالمية الثانية في الشرق الأوسط، أما أهالي المدينة الذين اعتقدوا أن الوضع سيطول لأعوام، وجدوا حلا لأزمتهم الاقتصادية الخانقة نتيجة الحصار وشح البضائع، وهو أن يتزوج كل رجل من أربع نساء، لينجب منهن عدة أطفال، يستطيعون مساعدته لاحقا على العمل وتخفيف تكاليف الحياة، ورغم غرابة هذا المنطق، لكنه حدث فعلا بحسب الكاتب المصري إبراهيم عبدالمجيد، في روايته "لا أحد ينام"، التي وثق فيها ما تفعله الحروب والصراعات في عقول الناس.
لكن الإسكندرية لم تكن الاستثناء، فالأزمات الاقتصادية سواء كانت نتيجة نزاعات عسكرية أو لأسباب أخرى، تضطر الشعوب إلى أفعال وتصرفات بعضها مبك وآخر مضحك كالبكاء، وفي صفحات التاريخ قديما وحديثا كثير من تلك المشاهد التي دفعت ببعض المفكرين إلى تأمل كيف أصبح المال متحكما إلى هذا الحد في الإنسان، وإذا كان الزواج من أربع يبدو مجرد ماض، فإن مشاهد الحاضر لا تقل غرائبية، يدلل على ذلك ما فعله الأمريكيون خلال أزمة الركود الاقتصادية الشهيرة في 2008.
فبحسب المواد الوثائقية التي بثت عن تلك المأساة التي أدت إلى إفلاس بنوك عالمية، يتضح أن الأمريكيين لجأوا إلى افتراش الأرض أمام بيوتهم التي عجزوا عن دفع أقساطها، وبنوا ما يشبه المخيمات حتى تظل حياتهم كما هي، فيما ذهب آخرون إلى منازل المسؤولين ليناموا فيها. وإذا كان الجميع يبحث عن الأموال وقت الأزمات، فإن الشعب الفنزويلي فاجأ العالم في 2019 حين تظاهر الآلاف منه في العاصمة كاراكاس، وألقوا عشرات الآلاف من عملتهم "بوليفار" مرددين هتافات بصوت عال، "لا تساوي شيئا"، وذلك بعد أن وصل معدل التضخم إلى 1000000 في المائة، وأصبحت النقود مهما كثرت لا تستطيع في النهاية شراء أي من السلع التي يحتاج إليها الناس.
ومن فنزويلا إلى بيروت لم تكن الصورة وردية، فلبنان الذي يعيش أزمة اقتصادية منذ أربعة أعوام وصلت ذروتها بإعلان مصرفه المركزي أنه غير قادر على توفير الدولار لتأمين الوقود، اضطر المواطنون إلى الهجوم على البنوك من أجل الحصول على ودائعهم، وعلى طريقة "أفلام الأكشن"، اقتحمت فتاة تدعى سالي حافظ أحد المصارف لتسحب جزءا من رصيدها بـ"الورقة الخضراء" ثم هرولت إلى المطار لتغادر بلدها، الأغرب أن "المسدس" الذي استخدمته في هذا الهجوم اتضح أنه "لعبة"، ومع تكرار العملية من قبل مواطنين آخرين أغلقت المصارف لمدة أسبوع قبل أن تستأنف عملها.
في بدايات 2022 وبعد الأسابيع الأولى من الحرب الروسية - الأوكرانية التي اندلعت في 20 شباط (فبراير)، جاء الدور على الشعوب الأوروبية التي وجدت نفسها مهددة بشل حياتها اليومية بعد اشتعال الصراع العالمي بين القارة العجوز وأمريكا من ناحية، وروسيا من ناحية أخرى، خاصة أن الأخيرة تمد أوروبا بـ45 في المائة من احتياجاتها من الغاز بحسب أرقام 2021، وقد هددت بوقف هذا الإمداد، الذي يعني نصف موت في فصل الصيف وموت كامل في الشتاء الذي على الأبواب، وهو ما دفع المواطنين المحليين إلى شراء عشرات الأطنان من أخشاب الحطب، لكي يوقدوا المدفأة بعيدا عن الغاز والوقود، في مشهد تعود قصته إلى ما قبل مليون عام في زمن الإنسان الأول هومو إريكتوس، حينما رأى البرق وهو يحرق الأشجار أمامه.
ومثل كل الدول التي لجأت في تلك الأوقات إلى حلول بدت غريبة وغير منطقية أحيانا، فعلت أوروبا أملا في النجاة أو تخفيف الأضرار إلى أقل حد ممكن، وكانت البداية من فرنسا التي تخلت عن لقب "مدينة النور" بتقليل الإضاءة العامة وإطفاء برج إيفل قبل موعده المعتاد بساعة، بجانب خفض درجة حرارة حمامات السباحة والمباني العامة، فيما اتخذت جامعة ستراسبورغ الفرنسية قرار إضافة أسبوعين إلى إجازة الشتاء الدراسية، أما إسبانيا فسارت على النهج نفسه بحظر إضاءة نوافذ المتاجر بعد العاشرة مساء.
أخيرا اتخذت هولندا إجراءات أكثر غرابة حين دعت مواطنيها لتقليل وقت الاستحمام، وللمساعدة على ذلك وزعت أجهزة توقيت لتحفيزهم على توفير المياه الساخنة لترشيد الاستهلاك، وهو ما التقطه رئيس ولاية بادن فورتمبيرج الألمانية، حين دعا إلى استبدال الاستحمام بالمناشف المبللة، مؤكدا أن بلاده تعتمد على الغاز الروسي بـ55 في المائة، وهو ما يجعلهم في مأزق، ويبدو أن تلك النقطة كانت مثار اهتمام كثير من قادة أوروبا، إذ دعت سيمونيتا سوماروجا وزيرة البيئة السويسرية إلى الاستحمام الجماعي في بلادها من أجل التوفير، والسؤال إذا كانت هذه ملامح الفوضى الآن، فماذا يخبئ لنا الشتاء حين يغطي الصقيع الأبيض الجميع؟