بعد عقود من الوسطية .. المزاج الشعبي الأوروبي يختار اليمين

بعد عقود من الوسطية .. المزاج الشعبي الأوروبي يختار اليمين
بعد عقود من الوسطية .. المزاج الشعبي الأوروبي يختار اليمين

خطفت الانتخابات الإيطالية أنظار العالم، بعد الفوز الكبير لتحالف اليمين، وصعود جورجيا ميلوني كأول رئيسة للوزراء في تاريخ إيطاليا منذ تأسيسها في 1861، ليقود تحالف اليمين الأمة الإيطالية، بعد عقود من القيلولة والجنح إلى السلم، حيث تأتي هذه النتائج، وسط انقلاب كبير لعدد من الدول على النظام الدولي القائم، حيث تقود روسيا جهودا كبيرة للتخلص من عقدة العالم أحادي القطب، الذي تقوده الولايات المتحدة، لكن النقطة الأبرز هذه الأيام هي عودة الجذور الفاشية إلى الساحة الإيطالية مجددا، بعد أفول شمسها عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية وانتصار الحلفاء، بتشكيل نظام عالمي جديد يتقبل الجميع وفقا لحالة الانتصار والانتماء لنادي الكبار، ما مكنهم الحصول على مزايا "الفيتو" في مجلس الأمن.
يضم ائتلاف اليمين الفائز أحزاب "إخوة إيطاليا"، و"الرابطة"، و"فورزا إيطاليا"، بعد حصوله على 44،1 في المائة من الأصوات، فيما كان حزب "إخوة إيطاليا"، بقيادة جورجيا ميلوني، الأكثر حصولا على الأصوات بـ26،2 في المائة، بعد فرز جميع أصوات الناخبين، حيث عملت الأحزاب اليمينية على تكثيف التواصل مع بعضها للدخول في ائتلاف مشترك، على الرغم من ضغوطات الحملة الانتخابية وضيق الوقت أمامها، لتكون إيطاليا هذه المرة الأولى التي تصوت فيها إيطاليا لانتخاب برلمان بعدد محدود من المشرعين، ما جعل المنافسة على الفوز بمقعد عدوانية أكثر من أي وقت مضى.
نجح اليمين بالوصول إلى السلطة في إيطاليا وفشل اليمين بالوصول إلى السلطة في فرنسا، التي طالب أبرز قادتها، بإيجاد نسخة أخرى من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الإليزيه، كما وصلت القومية الأمريكية إلى هرم السلطة في البيت الأبيض بعد وصول الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب إلى قيادة البلاد لفترة رئاسية واحدة، فيما خسر الانتخابات أمام الرئيس الحالي جو بايدن بعد انتخابات، شكك فيها كثير من الأمريكيين، لتسود الاحتجاجات والتظاهرات مختلف الولايات الأمريكية، وفي سابقة في سجل الديمقراطية الأمريكية، اقتحم المئات مبنى الكابيتول والمعروف في مقر الكونجرس الأمريكي، لتدخل واشنطن حالة من عدم الاستقرار السياسي حتى يومنا هذا، بسب قوة شخصية الرئيس السابق وتعامله مع الملفات، وضعف الإدارة الحالية في التعامل مع الأحداث المحلية والعالمية وفقا لمراكز دراسات الرأي الأمريكية.
تحولت الديمقراطية الليبرالية من مفهوم الأيديولوجيا إلى درجة القيم الإنسانية، في حين أنها إحدى الركائز الفكرية شكلا ومضمونا، التي يعتمد عليها ثالوث النظام العالمي الحالي، إلى جانب الليبرالية والرأسمالية، التي سبق أن وصفها المفكر الأمريكي من أصول يابانية فرانسيس فوكوياما في كتابه "نهاية التاريخ"، بأن النموذج الأيديولوجي الأفضل للحكم هو النظام الديمقراطي الحالي، الذي تسيطر من خلاله الولايات المتحدة على العالم، حتى بات هذا النظام يتحول من فكرة النظام إلى درجة القيم الإنسانية، التي تتنافى مع فطرة الإنسان القائمة على السلم والحرب بحسب ما تقتضيه مصالحه ومخططاته، لتشهد المرحلة الحالية مواجهة فكرية كبيرة، مع مؤيدي الديمقراطية وغيرها من التيارات الأخرى.
لا توجد طموحات للقيادة الروسية باستعادة ذكريات أمجاد الشيوعية، لكنها ترغب في استعادة أمجاد القيصرية الروسية، التي كانت حاضرة في التاريخ بانتصاراتها الخالدة، لكن فترة التيه التي عاشتها روسيا بعد مرحلة تفكك الاتحاد السوفياتي، جعلتها أسيرة للمعسكر الغربي، حتى جاء وقت النهوض، الذي يراه بوتين قريبا أكثر من أي وقت، ليخوض حربا أيديولوجية على الليبرالية الغربية، بالنظرية السياسية الرابعة، التي وضع أساساتها المفكر الروسي إلكساندر دوجين، الذي يعد أن من حق روسيا أن تعيد الروح إلى هويتها، بالاستناد إلى خليط يقوم على الهوية المسيحية الشرقية مع بعض الأفكار الماركسية والشيوعية في مختلف الحقبات التاريخية الحديثة، لكن بجرعات مخففة تتناسب مع الوضع القائم، ليكون الأساس استعادة الروح للهوية الروسية.
البوتينية أو تمسك الرئيس الروسي بالنظرية الرابعة لا تراجع عنه، حيث سبق أن أكد الرئيس الروسي أن بلاده ماضية في ذلك حتى إن كلفها اللجوء لخيار السلاح النووي، مشيرا إلى أن العالم الذي بلا روسيا لا قيمة له، كما أن هذه النظرية تتقارب إلى حد ما مع الشعبوية الأمريكية، التي تأثر بها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، من خلال المنظر السياسي الأمريكي ستيف بانون، على الرغم من العلاقة المتوترة بين الشخصين، إلا أن فترة حكم الرئيس الجمهوري، كانت صعبة على الحلفاء قبل الأعداء، وكانت واشنطن قريبة من موسكو أكثر من أي وقت مضى، حيث وجهت اتهامات للرئيس ترمب، بالحصول على دعم روسي للفوز بالانتخابات الرئاسية أمام المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون، في الوقت الذي اتسمت به العلاقة بين البلدين بالاستقرار، ما انعكس على العالم بمزيد من الاستقرار السياسي والاقتصادي، على الرغم من الأزمة المتعلقة بالتكنولوجيا، التي فرضتها واشنطن على الصين آنذاك، بعد فرض العقوبات على شركة هواوي، وفرض قيود على شبكة الجيل الخامس.
بريطانيا ليست بعيدة عما يجري من ذلك، فرئيس الحكومة السابق بوريس جونسون، كان سببا بالانفصال عن الاتحاد الأوروبي في محاولات إنجليزية للعودة إلى ذكريات الكومنولث البريطاني، ما تسبب في شرخ كبير في جسد الاتحاد الأوروبي، على الرغم من محاولات رأب الصدع باتفاقات سابقة مثل بريكست وغيرها، إلا أن لندن تركت باريس وبرلين وحيدتين في مواجهة، النفوذ الروسي الجديد، فيما تتطلع واشنطن إلى أن تكون المزود الأول للغاز للقارة العجوز بعد أزمة العلاقات بين موسكو والدول الأوروبية عقب العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في شباط (فبراير) الماضي.
من المبكر الحديث عن تبعات فوز الحكومة الإيطالية اليمينية، وأثرها في الاتحاد الأوروبي، لكن السمة الأبرز في الأحداث الجارية في العالم، أن الأزمات مستمرة، وأن هذا الشتاء سيكون أكثر برودة على القارة العجوز، التي تعاني شبح الانقسام، جراء عودة المزاج الشعبي إلى اليمين بعد عقود من الوسطية، فيما تتزاحم الأيديولوجيات السياسية على صناع القرار في الدول الكبرى، التي ستحمل المفاجآت بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة، التي ستحدد ملامح العالم بقدوم إدارة جديدة أو بقاء الإدارة الحالية، التي ستمنح القيادة الروسية مزيدا من التوسع في خريطتها الجغرافية، بعد ضم إقليم دونباس وخيرسون وزاباروجيا.

الأكثر قراءة