الغموض الاستراتيجي و«التخلي» يدفعان الدول نحو تحالفات غير تقليدية

الغموض الاستراتيجي و«التخلي» يدفعان الدول نحو تحالفات غير تقليدية

تتمسك واشنطن بسياسة الغموض الاستراتيجي، والتخلي عن الحلفاء في الأوقات الحرجة، فيما تتجه موسكو نحو سياسة مخالفة لنهجها القديم، بعد التمسك بالملف السوري والدفاع عنه بقوة، إضافة إلى مرحلة التمدد لاستعادة أجزاء من أراضي القيصرية الروسية، لكن في ظل هذه السياسات والتحركات، هنالك مخاض كبير لتحالفات دولية جديدة يزداد الحديث عنها، في ظل الانقسام العالمي بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا، سمة هذه التحالفات المنفعة والجدوى المتبادلة، وأساسها التعاملات المالية، وكسر قبضة الدولار على النظام العالمي، والهدف منها أن يكون التحالف مصدر ثقة وأمان بين الدول المتحالفة، لحمايتها وصيانة وحدتها وسيادتها، لكن التجارب السابقة فيها الحكمة والعبر، خصوصا أن العلاقات بين الدول اليوم تقوم على المصالح والمنافع، التي يحصدها الطرف الأقوى في العلاقة، ومن أكثر الدول تسجيلا للتحالفات الناجحة والفاشلة، الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا الاتحادية وريثة الاتحاد السوفياتي.
خذلت روسيا صدام حسين حليفها في بغداد، الذي كان يطمح في وقوفها معه في وجه التدخل العسكري الأمريكي، الذي كان يتطلع إلى الاعتماد على موسكو باعتبارها عضوا دائما في منظمة الأمم المتحدة، وعلى كسب دعمها للوقوف في وجه أمريكا. وما أشبه اليوم بالأمس، حيث تقف أغلبية الدول الغربية وأمريكا إلى جانب الرئيس الأوكراني فولديمير زيلينسكي، لكن معنويا وبالسلاح فقط، بعد أن تلاشت كل الوعود بضمها إلى حلف شمال الأطلسي الناتو، الذي كان يحمل الوعود ويقدم الضمانات بحماية أوكرانيا من روسيا، لكن الحال الأوكرانية اليوم ليست بعيدة عن الحال العراقية بعد الغزو الأمريكي.
أمنيات متبادلة
تمنت موسكو أن تقع القوات الأمريكية في مأزق شبيه بالمأزق الفيتنامي إبان احتلالها العراق وسقوط نظام حزب البعث، مكتفية بالوقوف ورصد الأحداث الجارية في ساحات المعارك، فيما لا تختلف هذه الأمنيات عن أمنيات أمريكية لسقوط هيبة روسيا على الأراضي الأوكرانية، لكن دون تدخل صريح وواضح، ليكون مصير أوكرانيا ورئيسها القادم من عالم الكوميديا والتمثيل، في انتظار مشهد الحبكة، الذي قد يكون قريبا إلى حد ما من مشهد نهاية الرئيس الأفغاني أشرف غني المدعوم أمريكيا، الهارب إلى المنفى بعد انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان وتسليمها لقوات جماعة طالبان إحدى أهم الجماعات الإرهابية في قوائم واشنطن.
تمسكت موسكو بسورية ودعمت نظام الرئيس بشار الأسد بالمال والرجال والسلاح، ولم تبخل عليه بالقواعد العسكرية المجهزة بأحدث الطائرات وتقنيات الدفاع الجوي كمنظومة إس – 400، بعد أن أدركت خطأ حساباتها الاستراتيجية بعد خسارة الدولة تلو الأخرى من منظومتها الاستراتيجية في العراق وليبيا وسورية وغيرها، خصوصا أنها فقدت المكانة والدور والموقع والعمق والثروة، وهذا تهديد استراتيجي حقيقي لها، ليتحول الدور الروسي من حليف استراتيجي للدولة الليبية إلى منافس بمرتبة لاعب، للحصول على أي دور للمنافسة على إيجاد مكان له في ليبيا، ومرد هذا كله، خذلان نظام القذافي وتركه وحيدا أمام ضربات الناتو والثورة الشعبية، التي أطاحت بحكم معمر القذافي، الذي حكم البلاد بالنار والحديد لنحو 42 عاما، وعلى شاكلة موسكو تتدفأ الإدارة الأمريكية على نيران الحرب المشتعلة في أوكرانيا، متمسكة بسياسة الغموض الاستراتيجي تجاه أهم حلفائها في العالم، وهي تايوان جارة العدو الصاعد الصين، التي تؤدي دورها كشوكة في خاصرة الجسد الصيني الواحد رغم تناقضات السياسة، التي تمارسها هناك على شواطئ المحيط الهادي.
تحالفات مالية
شكلت المصارف السيادية والبنوك المركزية جبهة منسقة لمواجهة الارتفاع المستمر لقيمة الدولار، نتيجة للمخاوف المستمرة لتبعات ارتفاع قيمة الدولار على الاقتصاد العالمي، إضافة إلى ظهور شبح الانهيار للعملات الأخرى، حيث تسبب هذا الارتفاع في هبوط عملات أخرى كالجنيه الاسترليني والمصري والأون الكوري الجنوبي، وجميع هذه الدول لديها تحالفات كبيرة مع واشنطن، فيما تعاني الهند وباكستان عجزا تجاريا، بسبب ارتفاع أسعار الحبوب والزيوت نتيجة للحرب الروسية في أوكرانيا وارتفاع الدولار، ما يعيد الذكريات إلى أزمة 1997 الآسيوية، التي تسبب فيها انخفاض قيمة البات التايلاندي، وقد تبعتها حينها ماليزيا والفلبين وإندونيسيا، وهو ما أصاب المستثمرين الأجانب بالذعر وأدى إلى عمليات سحب جماعية.
وتهديدا لهيمنة الدولار، حولت دول مثل الصين وروسيا تعاملاتها المالية، خصوصا المتعلقة بالتجارة النفطية، من الدولار إلى العملات المحلية، في رسالة واضحة لواشنطن من هذه الدول ودول أخرى، كالدول المشاركة في قمة شنغهاي، التي بحثت إصدار عملة موحدة فيما بينها لمنافسة هيمنة الدولار، واعتمادها لمنافسة نفوذ الدولار العالمي، فيما تسعى دول الاتحاد الأوراسي لإصدار عملة موحدة تمكنها من مواجهة هيمنة الدولار واليورو على حد سواء، فيما تستمد واشنطن قوة عقوباتها المفروضة على روسيا من خلال قوة عملتها، لكن حدوث أي رد فعل عنيف يمكن أن يقوض قيمة العملة الأمريكية، خصوصا أن الحروب تقلب هيمنة العملات رأسا على عقب، وتساعد على ولادة أنظمة نقدية جديدة.
سياسة الغموض الاستراتيجيخشية كبيرة في تايوان من خذلان أمريكي مشابه لما حصل مع حلفاء سابقين، فبعد التوترات الأخيرة، التي خلفتها زيارة نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب الأمريكي إلى تايوان، وتعامل بكين بهدوء وعقلانية، على الرغم مما تسببت فيه من طعنة في جسد مفهوم "الصين الواحدة" وفقا لمحللين، إلا أن الصين عازمة على استغلال مجريات الأحداث في أوكرانيا وحالة الفوضى العالمية، التي تعصف بالعالم اليوم، لتزيد الدول المناهضة للدور الأمريكي، بمحاولة عصيان منظم، مغطى بمظلة روسية داعمة، ما يتسبب في زيادة الضغوطات على الإدارة الأمريكية، العاملة على عدد من الملفات الكبرى، التي تحاول لملمة أوراقها بعيدا عن خسارة هيمنتها على العالم.
التدخل العسكري الأمريكي وارد في حال تدخلت الصين عسكريا في تايوان، لكنها غير ملزمة بذلك فهي تتعامل من منطلق الغموض الاستراتيجي، وهو مشابه تماما لما حدث مع الأكراد في شمال سورية، عندما قررت إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب الانسحاب من الأراضي السورية، وترك حلفائها الأكراد وحيدين أمام قوة الجيش التركي، فالولايات المتحدة غير ملزمة بالدفاع عن أحد، وليس بعيدا عن خذلان الأكراد، فقدت عمدت واشنطن إلى تزويد شبه الجزيرة الكورية بالقاذفات الاستراتيجية من نوع بي – 52، المحملة بصواريخ نووية، لكن اليابان وكوريا الجنوبية تتعرضان لحملات استفزازية من جارتهما الشمالية، دون أن تحرك واشنطن ساكنا على ذلك سوى بالإدانة والاستنكار.
واشنطن ماضية في سياسة الغموض، ليس الاستراتيجي فقط، بل الاقتصادي وعلى صعيد الحلفاء، فتركيا مثلا هي أحد أهم أعضاء الناتو، و"حليف لاغنى عنه"، بوصف أعمدة الدبلوماسية الأمريكية، وهي شريك أساسي في صناعة الطائرة الشبحية الأمريكية إف – 35، لكن سرعان ما تخلت عنها واشنطن بعد صفقة المضاد الجوي الروسي إس – 400، مستثنية أنقرة من قوائم مبيعات الطائرة الجديدة، كما عملت على تفعيل العقوبات الاقتصادية تجاهها، مستخدمة حرب العملات، لتوقع بالقيمة السوقية لليرة التركية، بعد اعتقال تركيا آندرو برونسون القس الأمريكي، لتفرج عنه لاحقا.
حليف فوق العادة
بلا شك تعد إسرائيل الحليف الأهم لأمريكا في العالم، نظرا إلى اعتبارات عدة، أبرزها المصالح المشتركة، ونفوذ اللوبي الصهيوني داخل أوساط المشهد السياسي الأمريكي، إضافة إلى الارتباط الوثيق بين الدولتين على أساس "الواجب"، حيث يصرح عديد من المسؤولين الأمريكيين باعتقادهم أن على الولايات المتحدة واجبا أخلاقيا في الدفاع عن إسرائيل، كما قدمت الولايات المتحدة نحو 150 مليار دولار من المساعدات لها بمختلف الأشكال، وفقا لـ"خدمة أبحاث الكونجرس" CRS، فإن إسرائيل هي أكبر متلق للمساعدات الخارجية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، كما أن واشنطن أول من اعترف بإسرائيل بعهد ترومان، فهي توصف بالدولة المدللة للأمريكان وحليف فوق العادة لهم.
لعبت إسرائيل أخيرا، دورا جديدا أكثر انفرادية، بعيدا عن واشنطن، التي تعدها قد خذلتها فيما يتعلق بالسعي الأمريكي لعقد اتفاق نووي جديد مع إيران، متحدية علانية جهود الرئيس الأمريكي جو بايدن لإحياء الاتفاق النووي مع إيران، بالتهديد بأنها "ستتصرف بمفردها لكبح نفوذ إيران في المنطقة"، بعد أن كانت تل أبيب تعتمد بشدة على المساعدات العسكرية والمالية الأمريكية، أصبحت اليوم مصدرا بارزا للأسلحة، يزدهر اقتصادها بفضل عقود من التبادل التكنولوجي مع الدول الغربية، ما أوجد صدعا في جدار العلاقات الودية بين الدولتين، بعد أن أخذت واشنطن موقفا شبه حيادي من حروب الظل بين إسرائيل وإيران، واستهداف إيران سفنا إسرائيلية.
هذه الأحداث تعيد إلى الأذهان مقولة أحد أهم وزراء الخارجية الأمريكيين على مر التاريخ، الملقب بـ"الثعلب" هنري كيسنجر، "ليس من مصلحة أمريكا إيجاد حل لأي مشكلة في العالم، هي فقط تمسك بخيوط المشكلة، ثم تحركها وفقا لمصالحها". هكذا هو الأمر ببساطة ووضوح كاملين، وانطلاقا من هذه القاعدة الثابتة في السياسة الأمريكية المتغيرة يمكن القول، إنه لا يمكن الاعتماد حقيقة على الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا ينطبق تماما على علاقة الشراكة الشرقية بين روسيا والصين، حيث لا تثق الصين بأن تسير في المركب الروسي، على الرغم من تقارب الرؤى والمصالح المشتركة، خصوصا أن الصين ترى نفسها خارج عباءة روسيا، وهي القوة الصاعدة المنافسة لواشنطن بعيدا عن كاريزما الرؤساء.

الأكثر قراءة