الاتحاد النقدي الخليجي..أول الغيث قطرة
أخيراً، وقع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي بإستثناء عُمان والإمارات اتفاقية الاتحاد الخليجي التي تشمل المجلس النقدي والبنك المركزي الخليجي والذي سيتولى المهمة الرئيس وهي إصدار وإدارة العملة المُوحدة. من الشواهد على بعض الإنجازات الوحدوية الخليجية التي تحققت على أرض الواقع: تطبيق الاتحاد الجمركي، ربط شبكات الصرف الآلي في دول المجلس بشبكة موحدة، والمساواة التامة بين مواطني دول المجلس في التملك وتداول الأسهم وتأسيس الشركات ناهيك عن التعاون العسكري والقانوني. في الواقع كانت الإمارات العربية المتحدة من أكثر الدول الخليجية تضرراً جراء الأزمة المالية العالمية وتبعاتها في ظل أجواء الانفتاح التي عاشها ويعيشها اقتصادها مع تسارع وتيرة المشاريع الاستثمارية التي تعتمد على التمويل البنكي وخاصة في المجال العقاري، ويبدو للعيان أن الإمارات هي الدولة الخليجية الوحيدة التي تُصارع أمواج الأزمة المالية العاتية ودون مساعدة أحد، خاصةً الأشقاء الخليجيين ولعل هذه الوحدانية قد جعلتها تقرر بمفردها وبملء إرادتها العدول عن العمل الجماعي الخليجي، حيث تحفظت على اختيار قادة دول المجلس للرياض كمقر للبنك المركزي الخليجي بحجة الأسبقية في طلب استضافته منذ عام 2004م، وبأن الإمارات لا تحتضن أي من المؤسسات التابعة لمجلس التعاون الخليجي، وقررت كذلك ربط عودتها للإتحاد النقدي باحتضانها مقر البنك المركزي الخليجي. ولعله من نافلة القول، أن نذكر أن من المهام الأساسية التي يقوم بها المجلس النقدي الخليجي هو زيادة درجة التنسيق بين البنوك المركزية المحلية وإصدار العملة الخليجية المُوحدة التي من المقرر أن تصدر عام 2010م، إضافة إلى تأسيس البنك المركزي الخليجي الذي مقره مدينة الرياض حيث سيكون دوره ضمان استقرار الأسعار من خلال التوظيف الأمثل للموارد الاقتصادية المُتاحة وليس استهداف التضخم وهذا يعني استقلالية السياسة النقدية لكل دولة من دول المجلس. اللافت للنظر، أن الفهم الخاطئ لقدرة الدولة الخارقة على معالجة الاختلالات الاقتصادية الهيكلية بسهولة ويسر، أدى إلى الإفراط في تنفيذ كثير من السياسات التنموية التطويرية السريعة دون أخذ الحيطة والحذر من التقلبات الاقتصادية العالمية، وهذه أدت في النهاية إلى مزيد من الخطوات الجريئة لمعالجة آثار الأزمة المالية العالمية على اقتصاد هذه الدولة الناشئة، فدعمت الاقتصاد الكلي عبر زيادة الإنفاق الحكومي لعام 2009م، ومع ذلك قد لا يصل في أحسن أحواله إلى مستويات الإنفاقات في السنوات السابقة بحكم التراجع الكبير في أسعار النفط واستنفاذ جزء كبير من المُدخرات الحكومية في السياسات التحفيزية العام الفارط والتي قد لا تؤتي ثمارها في القريب العاجل، وعليه، من المؤكد وجود فجوة تمويلية كبيرة قد تؤدي إلى ضعف النمو الحقيقي في الاقتصاد الإماراتي هذا العام والعام القادم على أقل تقدير.
ولا شك أن مثل هذا القرارات المفاجئة سيُسعد كثيراً المتربصين بدول المجلس وخطواتها التكاملية، كما انه سيؤثر في مسيرة التكامل الاقتصادي الخليجي مع العلم أن الإمارات تُشكل ثاني اقتصاد خليجي وبناتج وطني إجمالي يعادل 198,7 مليار دولار عام 2007م، فوجود الإمارات ضروري ضمن المنظومة الخليجية كتجربة تنموية ونهضوية حديثة رائدة شدت أنظار كثير من المهتمين بالتنمية حول العالم. فلو قُدر أن أصرت الإمارات على العودة للاتحاد النقدي شريطة تنازل المملكة عن المكان، فستكون الخاسر الأكبر وستتضرر كثيرا مسيرتها التنموية إلى حدٍ كبير، فقدرتها على المفاوضات الدولية الاقتصادية لوحدها سيضعف موقفها بشكل كبير حيث إن العمل الانفرادي غير مجدٍ في عالم التكتلات الاقتصادية، كما أن آفاق الأزمة المالية العالمية قد تبقى لردح من الزمن ولذا فقد تكون استثماراتها في أمس الحاجة إلى التمويل الذي قد يأتي من أخواتها الخليجيات، يضاف إلى ذلك وجود استثمارات خليجية وبالذات سعودية كبيرة فيها ما قد يجعل هذه الاستثمارات عرضة للبحث عن أماكن أُخرى أكثر جذباً وأمناً.
هذه الحقائق دعت الكتاب والاقتصاديين إلى مناشدة الإمارات العدول عن رأيها وتغليب المصلحة الخليجية العُليا على المصالح الشخصية وفرض الذات، وكذلك مواصلة الجهود لإقناعها بالعدول عن هذا القرار حيث إن اختيار المملكة مقراً للبنك المركزي الخليجي لم يأتِ من فراغ إنما بناءً على مزايا فريدة تتمتع بها المملكة قد لا تتوافر في مثيلاتها الخليجيات سواء من النواحي الاقتصادية أو الجيوبولتيكية. فخيار إكمال المسيرة الخليجية في الدول الأربع هو الخيار الأصح كنواة لعمل خليجي مُشترك، ولعل تحسن الظروف الاقتصادية والمالية الدولية سيجعل من لم ينضم للركب الخليجي المشترك يشعر بالحاجة إلى الأشقاء ويُعيد النظر في قراره. الحقيقة، المبررات الاقتصادية قد لا تكون في صف أي دولة خليجية لا ترغب في العمل الجماعي المشترك لأن الاتحاد النقدي، فالوحدة الاقتصادية الخليجية ومن ثم التكامل الاقتصادي إنما لمصلحة دول المجلس جميعاً ولهذا فقد يكون قرار عدم المشاركة ردة فعل سياسية ليس إلا ثم ما تلبث أن تزول. فالمسيرة يجب أن تستمر حتى لو انسحبت أكثر من دولة لأن مصلحة الدول الخليجية هي في الوحدة كي تتفاوض من موقع قوة.