الصين .. مؤتمر حزبي عادي برهانات استثنائية

الصين .. مؤتمر حزبي عادي برهانات استثنائية
الصين .. مؤتمر حزبي عادي برهانات استثنائية

كانت الصين، الأسبوع الماضي، على موعد مع حدث سياسي بارز في البلاد، يتعاقب مرة واحدة كل خمسة أعوام، ليضع "الخطة الخماسية" التي تضبط سكة سير الدولة والحزب في الصين، وتحدد التوجهات الكبرى في السياسة والاقتصاد والدفاع وباقي الشؤون الاستراتيجية. إنه حدث انعقاد المؤتمر الـ20 للحزب الشيوعي الصيني، حيث اجتمع 2296 مندوبا، يمثلون كل مقاطعات البلاد، لنحو أسبوع في قصر الشعب، في ساحة تيان أنمين في وسط العاصمة بكين، في محطة يعدها مراقبون المطبخ السياسي، حيث تطبخ القيادة الصينية وصفة نصف العقد المقبل "2022 - 2027".
يعد الحزب الشيوعي الصيني على المستوى التنظيمي واحدا من أكبر الأحزاب السياسية في العالم، وأكثرها تعقيدا على مستوى البناء الداخلي، فقائمة الأعضاء تضم 97 مليون عضو، وعن هيئة مناديب المقاطعات، حيث تحظى كل مكونات المجتمع الصيني بالتمثيل، من مسؤولي الأقاليم حتى ضباط الجيش، وصولا إلى ممثلي القواعد الشعبية "المزارعين والعمال"، تنبثق لجنة مركزية، بمنزلة برلمان الحزب، تتكون من 200 عضو، تتولى بدورها التصويت على المكتب السياسي "25 عضوا"، هيئة القرار العليا في الحزب، وأخيرا، اللجنة الدائمة بتركيبة مصغرة، ما بين خمسة إلى تسعة أعضاء، تبقى أهم وأقوى هيئة لصنع القرار في الصين.

حزب شيوعي بجبة رأسمالية

تاريخيا، دخل الحزب في المئوية الثانية، أواسط العام الماضي، فولادته كانت عشرة أعوام بعد تأسيس جمهورية الصين 1911، واتخذ شكل تنظيم سري خرج إلى العلن، بعد ثلاثة أعوام، عقب تحالفه مع الحزب القومي "الكومينتانج"، أكبر الأحزاب السياسية حينها. سرعان ما انهار التحالف بين الحزبين، فتم طرد الشيوعيين من المدن ليلتحقوا بقواعدهم في الأرياف. تمكن الزعيم ماو تسي تونج، بعد المسيرة الكبرى 1934، من ترسيخ هيئة الأركان الشيوعية، التي كانت أساس الإعلان عن جمهورية الصين الشعبية في الفاتح من تشرين الأول (أكتوبر) 1949.
تعثرت الجمهورية في بداياتها، بسبب الاهتمام بتصفية تركة الماضي على حساب الإعداد للمستقبل، فتوالت الحملات السياسية العنيفة ضد الحزب القومي أولا، وفي مرحلة لاحقة ضد المعارضين من الحزب الشيوعي نفسه، أشهرها حملة المائة زهرة بين 1956 و1957، حيث أرسل نصف مليون شيوعي إلى المعسكرات. أطلق ماو، عاما بعد ذلك، سياسة تصنيعية قسرية، تستهدف تحويل البلاد من الزراعة إلى الصناعة، عرفت بخطة "القفزة العظيمة للأمام"، أغرقت البلاد في مجاعة أودت بحياة 30 ميلون صيني. وحركت انتفاضات شعبية في عدد من المناطق، أبرزها انتفاضة التيبت التي كانت وراء نفي الزعيم الروحي الدالاي لاما إلى الهند.
جاءت "الثورة الثقافية" 1966، لتواري كوارث "القفزة العظيمة"، فطالب الزعيم شباب الصين بالتصدي للبرجوازية التي تسللت إلى الحزب، وباتت تشكل تهديدا مباشرا للأب المؤسس، ليشرعن في مؤتمر الحزب التاسع حملة تطهير سياسي ضد الطبقة البرجوازية. هكذا انزلقت البلاد في دوامة الرعب والعنف السياسي، أوقفها تدخل الجيش الذي استعاد النظام. كان حصول الصين 1971 على مقعد في الأمم المتحدة هدية ثمينة لنظام ماو، لكسب مزيد من الشرعية، قبل أن يدركه الموت في 9 سبتمبر 1976.
أدى التغيير في قيادة الحزب - بوصول الزعيم دينج شياو بينج إلى السلطة 1978 - إلى إعلان القطيعة مع الحقبة الماوية، وقيادة البلاد حتى 1992 بنفس إصلاحي يدفعها نحو اقتصاد السوق، وانخرط بالتدريج في إصلاحات سياسة وانفتاح اقتصادي، وكانت النخب التكنوقراطية، إحدى ثمار البعثات الصينية إلى الغرب، الأداة المحورية في تعاطيه مع مشكلات وقضايا الصين، دولة ومجتمعا. شكلت اختيارات الرئيس قصير القامة ركائز نهضة الصين، إذ بفضلها تحولت إلى قوة اقتصادية مع مطلع الألفية الثالثة، ولا سيما بعد انضمامها 2001، إلى منظمة التجارة العالمية.

مؤتمر عادي في سياق استثنائي

شهد الحزب الشيوعي، خلال العقود الأربعة الماضية، نقلا منتظما وسلسا للسلطة، بعد حقبة ماو تسي تونج، فكل زعيم سياسي يقدم على التنحي بعد ولايتين رئاسيتين، وفق قواعد وضوابط محددة سلفا. لكن قواعد الحزب على ما يبدو، وفي خضم التدافع الاستراتيجي العالمي، تتجه نحو التراجع عن هذا المبدأ. بالتمديد لمصلحة الرئيس الحالي شي جين بينج، الحاكم منذ 2012 لولاية أخرى، تمتد حتى 2027، على رأس ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم، ليصبح بذلك القيادي الأشد نفوذا في تاريخ الحزب، منذ ماو الأب المؤسس.
يعد مراقبون في الأوساط الغربية الحزب الشيوعي يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، حيث يعود نحو "الزعيم الواحد"، مثلما كانت الحال خلال الحقبة الماوية، بدل استبداد المؤسسة "الحزب"، الذي قيد صلاحيات القائد، بفرض أشكال تداولية ذات طابع مؤسساتي داخل الحزب الشيوعي الصيني. قراءة هذا القرار خارج سياقه لا محالة ستكون منحازة، فشي الذي مدد له، يعد أول زعيم تدرج أفكاره في الدستور أثناء وجوده في السلطة، ما يجعل أفكاره ومبادئه مدسترة.
علاوة على أن السماح ببقاء الرجل في منصب الأمين العام للحزب، يعني تخطي أعضاء الحزب قاعدة غير رسمية، تقضي بحصر سن القيادة في عتبة معينة. كانت القاعدة العرفية تفرض على كبار المسؤولين، لما فوق 68 عاما، وقت انعقاد المؤتمر العام للحزب التقاعد تلقائيا، فالقائد الصيني حاليا في عامه الـ69، ولا يزال ممسكا بزمام الأمور في الدولة. بذلك يكون الحزب قد اختار تغيير القواعد الداخلية مواكبة لتحولات داخل الدولة، واستجابة لتحديات متسارعة في مسرح الأحداث على الصعيد الدولي.
كان الزعيم في مستوى الحدث، بتركيزه في خطاب (مائة دقيقة) أمام المؤتمرين على محاور تتقاطع فيما بينها، لتؤكد محورية اللحظة التاريخية في تاريخ البلاد. فعلى الصعيد الداخلي، أشاد الرجل بنجاعة وفاعلية الحملة ضد الفساد، وإن كان البعض يتحفظ عليها، عادا الأمر خطة ضد معارضي الرئيس في صفوف الحزب الشيوعي. كما حذر من المخاطر التي تحف بالحزب والدولة والجيش، داعيا إلى تكثيف الجهود للتصدي لها. وهذا ما عده كثيرون رسالة مضمرة توحي بضرورة التمديد. وعرج على المنجز في مجال التنمية، مؤكدا عزمه على الدفع باتجاه تحقيق إنعاش كبير للأمة الصينية. وعلى الصعيد الخارجي، بسط أمام الصينيين الخطوط العريضة التي تؤطر دبلوماسية تطمح نحو قيادة العالم في المقبل من الأعوام.
ينسى الغرب، وهو يوكل سهام الحزب الشيوعي والنظام في الصين، الإشادة بالنجاحات والمنجزات، أو ربما يتناسى عمدا، لأنه حدث خارج حدود دائرته. يتحدث البنك الدولي عن إنجاز صيني غير مسبوق في التاريخ، بعد نجاح الصين في القضاء على الفقر في غضون أربعة عقود فقط، حيث هوى الرقم من 770 مليون شخص 1978 إلى أقل من ستة ملايين فقط 2019. كما وفقت جهود بكين في مكافحة التلوث، بإزالة ثلاث مدن صينية من قائمة المدن الأكثر تلوثا في العالم، حيث انتقل العدد من ست إلى ثلاث مدن فقط. واستطاعت كسب السباق على غزو الفضاء، بإنزال أول روبوت صيني على سطح المريخ 2021. وقبل ذلك، أفلحت في إرسال مركبة صينية على سطح القمر.. واقتصاديا، سجلت الصين أرقاما معتبرة، بتحقيق ناتج محلي إجمالي 18,5 في المائة من الاقتصاد العالمي، وصارت شريكة تجارية رئيسة لأكثر من 140 دولة ومنطقة في العالم.
ما سبق، وأشياء أخرى، تجعل الدورة 20 لمؤتمر الحزب الشيوعي الصيني استثنائية بكل المقاييس، بالنظر إلى السياق العالمي المضطرب الذي ينعقد فيه، علاوة على الرهانات المرتبطة به على الصعيدين الداخلي والخارجي، فالصين حاليا في صراع مع الزمن لإسقاط هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على العالم، بتدشين نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب. فهل يكون تمديد الصينيين للزعيم الحالي شي جين بينج إجماعا على تكليف الرجل بتنفيذ هذه المهمة الاستثنائية في مسار الأمة الصينية، وفي مسيرة التاريخ البشري.

الأكثر قراءة