تويتر .. «أغورا» افتراضية في قبضة الملياردير

تويتر .. «أغورا» افتراضية في قبضة الملياردير

قطع الملياردير إيلون ماسك دابر دراما مشوقة، حضرت فيها تهم الاحتيال والتلاعب وحتى الدعاوى القضائية، وجدلا إعلاميا استمر شهورا، بعد استحواذه بشكل رسمي، أواخر الشهر الماضي، على منصة تويتر، إحدى الشبكات الاجتماعية الأكثر تأثيرا في العالم، مقابل عرض سخي وصل إلى 44 مليار دولار، ما يمثل 54,20 دولار للسهم الواحد، ليغرد معلنا بعدها "تحرر العصفور".
أقلية قليلة في العالم تصدق حديث ماسك عن الحرية، على غرار كلامه سابقا عن أن الدافع وراء شراء تويتر كان خدمة الإنسانية. فهذا من قبيل كلام الليل الذي يمحوه النهار، لأن هذه المفاهيم آخر شيء قد يفكر فيه رجل أعمال غريب الأطوار من طينة إيلون ماسك. لم يتأخر أغنى رجل في العالم في تأكيد ذلك، بإعلانه في أول قراراته تسريح 3700 مشتغل في شركة تويتر، في "محاولة لوضع تويتر على مسار سليم، سنمر بعملية صعبة لتقليص قوتنا العاملة العالمية".
يتطلع المالك الجديد إلى التخلص من نصف القوة العاملة لديه في تويتر، ولا سيما أصحاب المراكز العليا أمثال الرئيس التنفيذي وكبار المسؤولين ورؤساء الأقسام في الشركة، حتى يتفادى خسارة قدرها أربعة ملايين دولار يوميا، ما يمثل نحو 1,5 مليار دولار في العام. بهذا يضمن تخفيض التكاليف إلى أقصى حد ممكن، كما أن ذلك يمثل أول الخطوات نحو فرض قيم عمل جديدة بناء على خططه.
سرعان ما توارت الإنسانية أمام زحف النيوليبرالية، حيث كشف أغنى رجل في العالم عن خططه للرفع من إيرادات تويتر، منصة النخبة في العالم، بفرض رسم بقيمة ثمانية دولارات نظير حصول المشترك على "العلامة الزرقاء"، ما يمنح أصحابها الأولوية في كثير من مميزات المنصة "الفيديوهات والتسجيلات..."، علاوة على كون المبلغ يعفيهم من 50 في المائة من الإعلانات التي تظهر في الحسابات غير المؤدى عنها، ليكون تلقي الإشهار هو مقابل امتلاك حساب في المنصة.
تذهب خطة التطوير أبعد من ذلك، بإبداء ماسك نيته فتح باب المكافآت المالية لأصحاب المحتوى على منصة تويتر، ما يعني تحويل الموقع إلى مصدر دخل لصانعي المحتوى. وحث الرجل العاملين في الشركة على الاستعجال في إحياء تطبيق فاين Vine، الخاص بخدمة الفيديوهات القصيرة، الذي استحوذت عليه تويتر عام 2012، واكتسب شهرة ملحوظة، قبل التخلي عنه أواخر 2016. لا غرابة في أن يختار الملياردير إعادة تشغيل فاين، بعد النجاح اللافت عالميا لتطبيق تيك توك، المملوك لشركة بايتدانس الصينية، المشابه له في الخدمة.
كل ما سبق في أفق التحضير لمشروع X الذي يسعى الملياردير وراءه بقوة، فيما يشبه محاكاة للتطبيق الصيني WeChat، الذي انطلق في بداية الأمر باعتباره تطبيقا عاديا للمحادثات، ثم ما لبث أن تحول إلى تطبيق يشمل الألعاب الإلكترونية والتسوق الإلكتروني. هذا الطموح ليس وليد لحظة الاستحواذ على الشركة، بل يعود لأشهر خلت حين عبر الرجل في تصريحات خاصة، في يونيو الماضي، عن عزمه تحويل تويتر إلى منصة مفتوحة متعددة الخدمات، وبذلك تصبح مشروعا كبيرا بعائدات وموارد لا تنضب.
بعيدا عن طموحات ماسك التي تظل مقبولة بالنظر إلى الخلفية الاقتصادية للرجل، فهو مالك شركتي "تسلا" لصناعة السيارات الكهربائية، و"سبايس إكس" للصواريخ الخاصة، تبقى الخطورة في تناقض امتلاك شخص لواحدة من أكبر منصات تشكيل الرأي العام، مع المبادئ المؤسسة للإنترنت، التي دفعت مثلا بالمخترع تم بيرنرز لي إلى الإبقاء على "النص العالمي المترابط" www مفتوحا للجميع، بدل تحويله إلى ملكية خاصة. علاوة على اعتماد الرجل نوعا من "التقية" بشأن الأمر، فحين سئل في مؤتمر عن دواعي رغبته في شراء تويتر بدل تأسيس منصة جديدة؟ كان رده عاطفيا أكثر مما هو عقلاني "إحساسي وحدسي القويان يخبرانني بأن امتلاك منصة عامة موثوق بها إلى أقصى حد وشاملة على نطاق واسع أمر بالغ الأهمية لمستقبل الحضارة".
تزيد شخصية المالك مسألة الاستحواذ خطورة، فالملياردير "لاعب أساسي في الفوضى الجيوسياسية" بتعبير صحفية "نيويورك تايمز"، فبفضل خدمات الإنترنت التي توفرها شبكة ستارلينك الفضائية - التابعة لشركته - لا تزال مراكز السيطرة والتحكم في أوكرانيا، قادرة على مواصلة الحرب. وطالب أخيرا، وزارة الدفاع الأمريكية بالمساهمة في فاتورة توفير النت الفضائي لأوكرانيا. وذلك من باب المناكفة السياسية لا غير، فالرجل يملك أزيد من ثلاثة أقمار اصطناعية تدور حول الأرض، وهذا أكثر بكثير مما تملكه أي دولة، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية.
يتواصل الرجل مع زعماء دول ورؤساء وزراء، ويبيع منتجاته التكنولوجية لدول في الشرق والغرب على حد سواء، ولديه مصانع في ألمانيا وفي الصين التي تعتمد عليها كثيرا شركته تسلا، لدرجة أن تصريحه لصحيفة "فاينانشيال تايمز"، عن إمكانية استرضاء الصين إذا منحت سيطرة جزئية على تايوان، فسر في الداخل الأمريكي، في ضوء هذا الارتباط. ونشر قبل أيام على حسابه في تويتر، استطلاعا للرأي، يحتوي حلولا للحرب الروسية - الأوكرانية وجزيرة القرم، وعن أحقية روسيا التاريخية. تغريدة اعتبرها كثيرون رسالة مشفرة يرمي من ورائها إلى مغازلة الرئيس بوتين، رغبة منه في العودة إلى السوق الروسية، بعد قرار القضاء الروسي حجب المنصة داخل روسيا.
لا يولي ماسك كل ذلك أي اهتمام، ليغرد بعد إتمام الصفقة قائلا "يحتاج تويتر لأن يصبح إلى حد بعيد المصدر الأكثر دقة للمعلومات حول العالم. هذه هي مهمتنا". قبل أن تنهال عليه الردود والتعليقات الساخرة حول كيفية تحقيق هذه المهمة، خصوصا بعد متوالية من القرارات العشوائية التي اتخذها الرجل بعد توليه زمام الشركة. فقد اضطرت إلى إعادة عشرات من المفصولين، بعدما أدرك أن عملهم وخبرتهم ضروريان لتطوير المنصة، وفق تصوره. كما أجل طرح الخدمات الجديدة للمشتركين، إلى ما بعد انتخابات التجديد النصفي، في الولايات المتحدة الأمريكية.
لا جدال بأن منصة تويتر تحولت، في الأعوام الأخيرة، إلى ما يشبه "ساحة أغورا اليونانية"، فضاء افتراضي ديمقراطي للتداول بين النخبة المؤثرة. سمة تتجه إلى فقدانها بعد سيطرة رجل واحد عليها، فحرية التعبير المشهود بها للمنصة، ستصبح رهينة حسابات وتقييم رجل واحد. ويزداد الأمر سوءا إذا صحت مزاعم هاميلتون نولان، في صحيفة "الجارديان"، حين قال "على الأرجح أن ماسك اشترى تويتر للسبب نفسه الذي دفع أصحاب المليارات على مر التاريخ إلى الاستثمار في الصحافة، محاولة السيطرة على المحادثات العامة".

الأكثر قراءة