استراتيجية البيت الأبيض للأمن القومي
أصدرت الإدارة الأمريكية الحالية التي يرأسها جو بايدن استراتيجيتها للأمن القومي أخيرا، بعد نحو عامين من اعتلائها سدة الحكم في البيت الأبيض، في تأخير اضطراري، نظرا للحرب الروسية على أوكرانيا وتداعياتها، معتبرة روسيا قوة إمبريالية عدوانية آخذة في التراجع، فيما عدت الصين التهديد الاستراتيجي الأكثر أهمية.
عدت استراتيجية واشنطن للأمن القومي السعي الصيني يهدف لإحداث تغييرات في قواعد النظام الدولي الراهن، وليس نسفه وإنشاء نظام بديل، كون النظام الدولي الحالي يحقق لها كثيرا من المكاسب والمصالح، بعكس روسيا التي تخوض حربا ضد الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين في أوكرانيا، إضافة إلى تهديدها الدائم باستخدام السلاح النووي، وإشعال فتيل حرب عالمية ثالثة، وسعيها نسف النظام الدولي لعدم تحقيقه كثيرا من المكاسب لها.
وفقا لما سبق، تحصر واشنطن عداوتها في الدولة الروسية، التي يقودها الرئيس فلاديمير بوتين، بوصفها التهديد الاستراتيجي الأول، وكذلك خطورتها الشديدة على أمن حلفائها في القارة الأوروبية والنظام الدولي وقواعده، مع تعهدها بعدم السماح لروسيا أو لأي قوى دولية أخرى، بتحقيق أهدافها عن طريق استخدام الأسلحة النووية أو التهديد باستخدامها، خصوصا في ظل التوقعات الاستخباراتية الأمريكية، بأن القيادة الروسية، قد تقدم على تلك الخطوة في حال هزيمتها في أوكرانيا.
كما شددت الاستراتيجية الأمريكية على منع انتشار أسلحة الدمار الشامل والمواد الانشطارية، وتقنياتها، ووسائل إيصالها، من خلال التعاون مع الحلفاء والمنظمات الدولية لتعزيز آليات الحد من التسلح، ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل، خاصة في أوقات الصراع عندما تكون مخاطر التصعيد مرتفعة.
وتقوم الاستراتيجية الأمريكية الجديدة على أربع ركائز، هي زيادة الاستثمار في الداخل الأمريكي، لتعزيز القدرة التنافسية والاقتصادية والتكنولوجية الأمريكية، عبر بناء شبكة من التحالفات الواسعة في منطقة الإندو-باسيفيك، إضافة إلى التنافس بمسؤولية مع الصين للدفاع عن المصالح الأمريكية.
وضعت استراتيجية بايدن القيود على تلك المنافسة مع تجنب تحولها إلى عالم من الكتل الجامدة أو إلى صراع أو حرب باردة جديدة، أما الركيزة الرابعة تعتمد على تقديم تطمينات وتحذيرات للصين بشأن تايوان، مع التأكيد على معارضة استقلال تايوان، لتؤكد مبدأ انحياز الإدارات الأمريكية لمصالحها الوطنية فقط، ومقتضيات الهيمنة والزعامة المنفردة قبل أي شيء آخر.
استراتيجية إدارة بايدن في الشرق الأوسط لم تحمل أي جديد، خصوصا أنها تؤكد تقليل الانخراط الأمريكي في المنطقة في إطار التركيز على منافسة القوى العظمى، وانتقال مركز الاهتمام الأمريكي إلى منطقة الإندو-باسيفيك، لمواجهة الصعود الصيني المتنامي، والتهديد الروسي للأمن الأوروبي للمرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
دبلوماسية الديون الصينية، كانت حاضرة في استراتيجية إدارة الرئيس بايدن، متهمة بكين باستخدامها، من خلال القوة الاقتصادية لفرض نفوذها على بعض الدول الفقيرة والنامية، باستغلال العولمة وانفتاح الاقتصاد العالمي، لتعزيز قوتها ونفوذها الاقتصادي، ما يجعل العالم أكثر اعتمادا عليها، في الوقت ذاته تقلل هي من اعتمادها على العالم.
تنبع أهمية استراتيجية الأمن القومي الأمريكي من ثلاثة اعتبارات أساسية، يتمثل أولها في تحديد المصالح الاستراتيجية وأولويات الإدارة الأمريكية، وأبرز المنافسين، لتكون بمنزلة الإطار الحاكم لسياستها الخارجية تجاه التحولات والأزمات الدولية.
الاعتبار الثاني يكمن في تحديد أولويات الأمن القومي للإدارة لترجمتها في شكل تشريعات، من قبل مجلسي النواب والشيوخ، أما الثالث بتقديم الاستراتيجية التوجهات العامة للوثائق والاستراتيجيات، التي ستصدر عن باقي المؤسسات التنفيذية، ولا سيما وزارة الدفاع "البنتاجون"، التي ستصوغ استراتيجيتها المقبلة للدفاع الوطني، وفقا لاستراتيجية الأمن القومي لعام 2022.
كما حددت استراتيجية الدفاع الوطني أهدافا، فيما يتعلق بالتخطيط العسكري لهياكل القوة الأمريكية، وكيفية تحديثها في ضوء الالتزامات، التي تضمنتها استراتيجية الأمن القومي، والموارد البشرية والمادية المطلوبة لتنفيذها، حيث تبرز النزعة القيادية الأمريكية للعالم، عند ذكر الدور الأمريكي في قيادة عملية إنشاء مؤسسات وقواعد ومعايير السياسة والاقتصاد والتكنولوجيا، بعد الحرب العالمية الثانية، بما يعود بالفائدة على الناس في جميع أنحاء العالم، ولكن وفقا للمصالح والقيم الأمريكية.
وتواجه الولايات المتحدة تحديات: أبرزها التنافس بين القوى الكبرى "روسيا والصين"، لتشكيل مستقبل النظام الدولي، والتعامل مع التحديات العابرة للحدود الوطنية، التي تتطلب تعاونا دوليا مشتركا مثل تغير المناخ، وانعدام الأمن الغذائي، والأمراض المعدية، والإرهاب، وأمن الطاقة.
ومن أهم التحديات، التي تواجهها واشنطن إصلاح الديمقراطية الأمريكية المدمرة داخليا، بعد أعوام زادت من حد الانقسامات السياسية والحزبية، ومعدل الكراهية بين الأمريكيين.
ومثل باقي الإدارات الأمريكية السابقة، فإن استراتيجية إدارة بايدن للأمن القومي ترى أن قوة الولايات المتحدة تبدأ من الداخل، ولذلك أعادت التأكيد على التقاليد الديمقراطية الأمريكية، وأهمية تحديث الجيش الأمريكي وتقويته بحيث يكون جاهزا لعصر منافسات القوى العظمى، إضافة إلى تعزيز التحالفات الأمريكية الدولية لتشكيل البيئة الاستراتيجية العالمية، وحل التحديات الدولية المشتركة.
الإرهاب، ولمواجهته كتهديد، ستعمل واشنطن على زيادة التعاون والدعم، للشركاء الموثوق بهم لوضع استراتيجية جديدة، لبناء أو توسيع أنظمة منع التهديدات واكتشافها والتصدي لها في مراحلها الأولى، خصوصا الدور الداخلي للإرهاب، من خلال مواجهة مجموعة من المتطرفين المحليين العنيفين، لأسباب عنصرية أو عرقية أو سياسية.
الجهود الباهتة أمريكيا نحو الإرهاب أخيرا، نتيجة لتراجع حدته، ولم يعد الأولوية لدى وزارة الدفاع، حيث تتعامل معه استراتيجية بايدن بصفته أكثر تنوعا من الناحية الأيديولوجية، بانتشاره على المستوى الجغرافي بشكل أكبر، مما كان عليه قبل 20 عاما، نتيجة لتمدد تنظيم القاعدة وداعش وانتشارهما من أفغانستان والشرق الأوسط إلى إفريقيا وجنوب شرق آسيا، وأن الفروع المحلية للإرهاب باتت جهات فاعلة وراسخة في النزاعات الإقليمية.
استراتيجية الأمن القومي لإدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، كانت تعد روسيا والصين تهديدين رئيسين للولايات المتحدة، وكذلك قوتان تعديليتان في النظام الدولي القائم، الذي أسسته الولايات المتحدة في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية، وتسعيان لإحداث تحولات في قواعده ومؤسساته وقيمه بما يخدم مصالحهما، فإن استراتيجية الأمن القومي لإدارة بايدن ترى أن القوتين الروسية والصينية تطرحان تحديات مختلفة.