الأمم المتحدة بوصفها مؤسسة دولية يمكن الرهان عليها

الأمم المتحدة بوصفها مؤسسة دولية يمكن الرهان عليها
الأمم المتحدة بوصفها مؤسسة دولية يمكن الرهان عليها

عقب كل نزاع أو أزمة دولية، يتجدد النقاش حول ضرورة إصلاح هيئة الأمم المتحدة، ليعيد تسليط الأضواء على موضوع قديم رافق المنظمة الدولية بعد مضي أعوام قليلة فقط على المصادقة على ميثاقها، بتاريخ 26 أكتوبر 1945. فتعقد وتشابك وتضارب المصالح على المشهد الدولي، إضافة إلى التغير الكبير في موازين القوى، وكذا ممارسات الدول الكبرى على أرض الواقع، ناهيك عن التزايد المستمر في عدد الدول الأعضاء بالانتقال من 51 دولة لحظة التأسيس إلى 193 دولة حاليا، أسهمت بدرجات متفاوتة، في إظهار أعطاب وكشف خلال الهيئة الأممية أمام العالم بأسره.
ينعقد الإجماع على قصور وعجز الأمم المتحدة عن النهوض بالأدوار المسندة إليها، وتتوالى الأصوات للمناداة بالإصلاح، بما في ذلك الممثل الأول للمنظمة الذي افتتح أعمال الدورة الـ77 لاجتماعات الجمعية العامة، سبتمبر الماضي، بكلمات تحمل في طياتها نقدا حادا للوضع العالمي، "عالمنا يعيش حالة من الخطر والشلل. الخلافات الجيوسياسية تقوض عمل مجلس الأمن والقانون الدولي وثقة الشعوب في المؤسسات الديمقراطية وكل سبل التعاون الدولي، ولا يمكننا مواصلة العمل على هذا النحو". لكن لا أحد طالب بالاستغناء عن هذا الكيان، رغم كل الانتقادات والمؤاخذات.
"الأمم المتحدة لم تنشأ لجلبنا إلى السماء، ولكن من أجل إنقاذنا من الجحيم"، كلمات للدبلوماسي السويدي داج همرشولد، ثاني أمين عام للأمم المتحدة "1953-1961"، في أوجه الاصطدام بين الكتلتين الشرقية والغربية زمن الحرب الباردة، تثبت إيمان الجميع بمقولة نورمان كازينز، البروفيسور والصحافي الأمريكي، "إذا أردنا للأمم المتحدة البقاء، فعلى من يمثلونها أن يدعموها، وعلى من يناصرونها أن يخضعوا لها، وعلى من يؤمنوا بها أن يقاتلوا من أجلها"، ما يؤكد أن هذه المنظمة ليست بالمؤسسة المثالية، لكن لا بديل عنها في الساحة الدولية.
مطلب الإصلاح قرين المنظمة الأممية
مطلع عقد التسعينيات، بدأ نطاق الحديث عن إصلاح الأمم المتحدة يتسع، ويحظى بتأييد ودعم دوليين، ولا سيما ما يتعلق بمراجعة قواعد مجلس الأمن حتى يكون أكثر ديمقراطية وتمثيلا للدول، وأكثر فاعلية في حل المنازعات الدولية. ناهيك عن ضرورة تجديد هياكل المنظمة لتجاوز أعراض الشيخوخة التي اعترتها، وحالت دونها والوظائف التقليدية، فبالأحرى النهوض بالمهام الجديدة الملقاة على عاتقها، بموجب التطورات المتلاحقة التي طرأت على النظام الدولي.
انطلقت المطالبة بإصلاح الأمم المتحدة مع حركة عدم الانحياز، في ستينيات القرن الماضي، تلتها دعوة من الجمعية العامة نفسها، خلال حقبة السبعينيات، بإعادة النظر في ميثاق الأمم المتحدة، بحثا عن السبل الكفيلة لتعزيز دور المنظمة ومنحها مزيدا من الفاعلية. ثم جاءت محاولة الأمين العام بطرس غالي "1991-1996" الذي قدم رؤية للإصلاح بعنوان "خطة للسلام" بمفاهيم جديدة "الدبلوماسية الوقائية، صنع السلام، حفظ السلام..."، أواسط 1992، بعد حصوله على تفويض من رؤساء دول العالم لتجديد المنظمة الدولية.
حاول كوفي عنان، الأمين العام السابع من أصول إفريقية، الذي أمضى ولايتين على رأس المنظمة "1997-2006"، بدوره رعاية مشروع إصلاحي في أواخر ولايته الثانية، تجدد بواسطته المؤسسة الدولية نفسها، دعا الجميع إلى مساندته مؤكدا "أن هذه فرصة، ربما لن تتكرر مرة أخرى، لتحويل الأمم المتحدة إلى منظمة قادرة وفعالة على مواجهة تحديات القرن الـ21"، فشكل لجنة مؤلفة من 16 شخصية أنهت أشغالها بوضع تقرير بعنوان "الاستثمار في الأمم المتحدة: من أجل منظمة أقوى" احتوى على 101 مقترح.
بداية الألفية الثالثة، تبنت دول مطلب الإصلاح، فحاولت فرنسا وبريطانيا دعم مساعي الأمين العام عنان الذي صرح بعد الاحتلال الأمريكي للعراق بأن "العالم يعيش أزمة نظام دولي". تلاحقت مطالب فرنسا بمراجعة ميثاق تأسيس الأمم المتحدة، فقدمت 2013، مشروعا بهدف ضبط اللجوء إلي حق النقض، عبر تعهد الدول الخمس الأعضاء، طوعيا وجماعيا، بعدم اللجوء إليه في حالات الجرائم الواسعة النطاق. إثباتا لحسن النية، أعلن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند أمام الجمعية العامة تنازل بلاده من طرف واحد عن استعمال حق النقض ضد أي قرار ذي مصداقية، واستمرارا للنضال من أجل الإصلاح تقدمت في سبتمبر، عام 2015، بقرار إلى مجلس الأمن يحد من استخدام حق النقض، سرعان ما واجهته روسيا بالنقض.
الشرعية الدولية على المحك
يكفي اختلاف الظروف ما بين النشأة والوضع العالمي الراهن مبررا لمراجعة نظام وقواعد اشتغال الأمم المتحدة، فلحظة التأسيس كانت أغلب الدول النامية تحت وطأة الاستعمار، قبل أن تنال استقلالها، وتحظى بمقعد في الأمم المتحدة جنبا إلى جنب من استعمرها. تزيد المنعطفات الكبرى التي شهدها النظام الدولي من ثنائية القطبية "1947-1991" نحو الأحادية القطبية، فالعودة مجددا إلى تعددية قطبية مفتوحة، بعد صعود الصين وعودة روسيا وصعود قوى أخرى كالهند والبرازيل وألمانيا واليابان، من مشروعية المطالب المتواترة بضرورة إصلاح المؤسسة الدولية، بشكل يتناسب مع موازين القوى العالمية، ويستجيب لتحديات المعاصرة والمستقبلية.
تصرفات الدول الأعضاء في مجلس الأمن بدورها مبرر موضوعي يدفع بقية دول العالم نحو استعجال الإصلاح، فالدول الخمس الدائمة العضوية في المجلس شنت 66 حربا، منذ نشأة الأمم المتحدة، منها 16 قامت بها الولايات المتحدة، بدءا بالهجوم على فيتنام الشمالية، مارس 1965، وليس انتهاء باحتلال العراق 2003. وأحيانا، بتنسيق بين الأعضاء، كما حدث في الهجوم الثلاثي "الأمريكي البريطاني الفرنسي" على ليبيا، لإسقاط نظام العقيد معمر القذافي. هكذا وبدل أن تقدم الدول الأعضاء المثال على الالتزام بمبادئ وميثاق المنظمة، تكون أول من يخرقه مستغلة صفتها ومقعدها في مجلس الأمن.
حتى داخل مجلس الأمن، استغلت هذه الدول تفوقها في الحرب العالمية الثانية، فهندست المؤسسة الأممية على مقاسها، ومنحت نفسها حق النقض "الفيتو" الذي يتناقض والأسس التي تحكم فلسفة هيئة الأمم المتحدة، بصفتها مصدرا للشرعية الدولية. وهذا أثبت الواقع العملي، فخلال سبعة عقود استعملت الدول الخمس حق الفيتو 293 مرة، وتأتي روسيا وقبلها الاتحاد السوفياتي على رأس القائمة بمجموع 144 مرة، تليها الولايات المتحدة بـ83 مرة، فالمملكة المتحدة 32 مرة، ثم فرنسا بمجموع 18، وأخيرا الصين 16 مرة.
على صعيد التمثيلية، تبرز مشكلة استبعاد قارتين من نادي العضوية الدائمة، في تناقض واضح مع مبادئ العدالة والمساواة، التي تسعى المؤسسة الأممية إلى نشرها في العالم. فداخل مجلس الأمن، الذراع الأقوى للأمم المتحدة، تغيب دول القارة الإفريقية وأمريكا الجنوبية، وتحضر القارة الآسيوية بشكل لا يتناسب مع حجمها، مقارنة بالقارة الأوروبية. كما يغيب أي ممثل للدول الإسلامية في المجلس، رغم ما يعني ذلك من دلالة بالنسبة إلى 1.5 مليار إنسان مسلم في العالم، ولا سيما أن أغلبية الأزمات والحروب في العقود الأخيرة ضحاياها من المسلمين.
تراوح التهديدات والتحديات التي تواجه الإنسانية، ما بين التقليدية من قبيل: الحروب والكوارث والأوبئة، والحديثة مثل: مشكلة المناخ والحروب الإلكترونية.. ما يفرض على البشرية، اليوم قبل الغد، وحدة وتضامنا غير مسبوقين. فالدول منفردة، مهما بلغت قوتها، غير قادرة على الصمود في مواجهة المخاطر، وتبقى جائحة كورونا خير مثال على ذلك. لكل ما سبق بات التفكير في السبل الكفيلة لتحويل الأمم المتحدة، وبشكل خاص مجلس الأمن، إلى مؤسسة دولية يمكن الرهان عليها لإنقاذ الإنسانية مما يتهددها راهنا ومستقبلا.

الأكثر قراءة