الحرب الروسية الأوكرانية .. التهدئة تفرض نفسها
وصلت الحرب الروسية الأوكرانية إلى مرحلة إعادة ترتيب الأولويات، تزامنا مع قدوم الشتاء، لضبط الصراع هناك ومنع تفاقم الأوضاع في القارة الأوروبية وبوابتها الشرقية أوكرانيا، التي تسجل قواتها مقاومة شرسة بدعم غربي مفتوح، ما يترتب عليه خسائر روسية كبيرة عسكريا واقتصاديا، وينتج عنه شراسة أكبر في الهجوم الروسي، والتفكير بخيارات أخرى كاللجوء لاستخدام الأسلحة النووية، وتوسيع رقعة الحرب جغرافيا.
وهذا يدفع جميع الأطراف بما فيها روسيا إلى لملمة شتاتها بعد مرور نحو تسعة أشهر على بدء العملية العسكرية الروسية في الأراضي الأوكرانية، ولا نية نحو تصعيد وتيرة القتال على الجبهات، من قبل الجميع شرط الالتزام بالتهدئة، نية ترويض الصراع كانت بدايتها من الولايات المتحدة، التي فضلت التريث، بعدم إلقاء اللوم على الروس بعد سقوط مقذوفات عسكرية على أراض بولندية، الدولة الحاملة لعضوية حلف شمال الأطلسي "الناتو"، ليتبين لاحقا أن الصاروخ ضمن منظومة الدفاعات الجوية الأوكرانية.
وتسعى واشنطن إلى ضبط إيقاع الأزمة التي تعيشها القارة العجوز، من خلال منع توسع المعارك وتحولها لمواجهة مباشرة بين روسيا من جهة وحلف الناتو ودول أوروبية من جهة أخرى، وذلك عبر قنوات حوار منها الخفية، ومنها المعلن على مستوى قيادات أجهزة الاستخبارات الأمريكية الروسية، وكذلك استمرار العمل على رفع مستوى هذا التواصل بين البلدين لتخفيف حالة الاحتقان التي يشهدها العالم، وتنذر بوقوع حرب عالمية ثالثة.
الأجواء الباردة في أوكرانيا تزيد من الرغبة الروسية نحو تجميد العمليات العسكرية الكبرى، في حال لم تتجه المقاومة الأوكرانية للتصعيد، وهذا غير مستبعد حيث منيت التشكيلات العسكرية الأوكرانية بأضرار جسيمة جراء التصدي الكبير للقوات الروسية، ومنعها من احتلال مزيد من الأراضي هناك، بعد سيطرة الجنود الروس على بعض الأقاليم السلافية في البلاد، ووقوفها مع حكومة موسكو.
الرغبة الأوكرانية الغربية لا تقل عن الروسية في خفض التصعيد، للحد من التوتر ورسم خطوط عريضة، لاعتمادها في المفاوضات، بعد جس النبض لفتح قنوات اتصال دائمة وفاعلة بين أطراف النزاع، لتحقيق الهدوء النسبي في الجبهة الأوكرانية بالنسبة إلى روسيا والحفاظ على مناطق نفوذها هناك، فيما تحقق حكومة كييف فرصة لتخفيف الأعباء عن شعبها وقواتها المسلحة، تحديدا في فصل الشتاء، في ظل انهيار جزء كبير من البنية التحتية وشبكة الكهرباء في البلاد، وتلف كثير من الطرق والمساكن، التي تجعل من الحياة وظروفها أكثر صعوبة وتعقيدا.
خفض العمليات العسكرية وعدم التصعيد يحمل فرصا كثيرة للجميع، في حال وصلت أطراف النزاع إلى صيغة تفاوضية على مستويات الصراع كافة، التي تتجاوز حدود المواجهة الروسية الأوكرانية، حيث تخطط موسكو للتفاوض على ما هو أكبر من ذلك، خصوصا أن الانتخابات الأمريكية على الأبواب، وهذه الإدارة مهددة بالرحيل وانتخاب أخرى جمهورية لا تحمل الاهتمام ذاته تجاه أوكرانيا.
ترى موسكو أن تخفيف وتيرة المواجهة العسكرية ضرورية، لمنح قيادتها العسكرية فرصة لتدريب قوات الاحتياط، التي سبق أن استدعتها، بعد إعلان الرئيس الروسي التعبئة العامة، وكذلك تعطي مجمعات التصنيع العسكري مساحة أكبر من الوقت لإنتاج مزيد من الأسلحة، بعد استنزاف قدر كبير منها خلال الفترة الماضية، حيث تحظى كييف بدعم عسكري غربي مفتوح، ما تسبب باستهلاك غلة كبيرة من رصيد الأسلحة الروسية.
نتيجة للأجواء الباردة، الدول الأوروبية أمام اختبار كبير وصعب، في مواجهة النقص الحاد في إمدادات الطاقة، وتداعيات ارتفاع الأسعار والتضخم وتصاعد معدلات التذمر الشعبي في القارة الأوروبية، ما يدفع الحكومات الأوروبية، إما بالصمود واللجوء للمخزونات الاحتياطية وإما باستجداء موسكو لتزويدهم بالغاز، والتنازل عن الوقوف في الصف الأوكراني، في المقابل تستغل روسيا حاجة الأوروبيين إلى الغاز بدفعهم لتقديم تنازلات بالضغط على الرئيس الأوكراني فولديمير زيلينسكي وإقناعه القبول بالتفاوض على إنهاء الحرب على الطريقة الروسية.
وعلى الرغم من هذه الرغبات إلا أن القيادة الروسية، لن تقف مكتوفة الأيدي في حال صعدت القوات الأوكرانية، وحاولت قلب طاولة الصراع عليها، ولن تذهب بعيدا في تخفيف الضغط العسكري بشكل أحادي، مقدمة الصورة الحقيقية لقدرتها على مواصلة ممارسة الضغط الأقصى لحمل الغرب على إقناع زيلينسكي بوقف الهجوم المضاد والاستعداد لفترة تجميد الصراع، خصوصا أن صفقات السلاح قيد الإعداد للحصول على مزيد من الطائرات المسيرة، التي كان لها صولات وجولات في المعارك الأخيرة.
وضع الرئيس زيلينسكي خمسة شروط للتفاوض مع روسيا، هي: استعادة وحدة الأراضي الأوكرانية، واحترام ميثاق الأمم المتحدة، والتعويض عن جميع الأضرار التي تسببت فيها الحرب، ومعاقبة جميع مجرمي الحرب، وضمان عدم تكرار ما يحدث، مع توفير الفرصة لتخفيف حدة الصراع بشكل مؤقت وفتح المجال أمام الحوار الروسي الغربي، شرط عدم تجاوزها الخطوط الأساسية المتفق عليها مع الغرب هذه الأيام، وعدم التفريط بالأراضي الأوكرانية.
تدرك القيادة الأوكرانية الرغبة الأمريكية الروسية المشتركة في تجميد الصراع داخل الأراضي الأوكرانية، وتنشيط قنوات الحوار بينهما، كما تتيقن أن واشنطن لن تقر بالوضع الميداني لمصلحة روسيا، وأنها مستعدة للحوار معها، لكن دون وجود الرئيس فلاديمير بوتين، لكن واشنطن مستعدة للحوار والتفاوض مع روسيا بغض النظر عن الشخصية، حتى ولو كان بوتين بشحمه ولحمه، لكنها لن تكون حيادية تماما بشأن كيف ومتى تنتهي الحرب.
بدوره، أكد أناتولاي أنطونوف السفير الروسي في الولايات المتحدة أن بعض قنوات الاتصال بين بلاده وأمريكا مفتوحة، ولم تنقطع نهائيا على الرغم من القطيعة، التي تسببت بها الأزمة الأوكرانية، وأن المفاوضات الجارية تضع مقدمات لتمهيد الطريق أمام القادة وصناع القرار، للالتقاء والتفاوض، وتجاوز الأزمة لتجنيب العالم خطر استخدام الأسلحة النووية في حال شبت مواجهة مباشرة بين الطرفين.
وعلى الرغم من النفي الروسي والتضليل الأمريكي تجاه الخبر المقبل من الأراضي التركية بالحديث عن لقاء جمع رئيس المخابرات الخارجية الروسية سيرغي ناريشكين ورئيس الاستخبارات المركزية الأمريكية ويليام بيرنز، إلا أن اللقاء قد جرى وتم التفاوض على بعض الأمور المتعلقة بالأزمة، وتم التباحث في عدد من المسائل أبرزها ضرورة تحييد الأسلحة النووية، والسعي نحو حل للأزمة، والتجهيز لعقد قمة مرتقبة بين الزعيمين الروسي والأمريكي.