كرة القدم .. قوة ناعمة تفلت من عقال الاحتكار الأوروبي

كرة القدم .. قوة ناعمة تفلت من عقال الاحتكار الأوروبي
كرة القدم .. قوة ناعمة تفلت من عقال الاحتكار الأوروبي

تحولت لعبة كرة القدم من رياضة شعبية على هامش الحياة إلى صناعة مربحة في مركزها، ومن ممارستها بشكل فردي بين جماعات نحو تنظيم مؤسساتي محكم الإدارة والتدبير، ومن محض هواية للاستمتاع والترويح إلى نشاط مهني للاحتراف، بأجور مغرية وعوائد مثيرة، ومن البساطة في الأداء إلى التعقيد في الإجراءات والتمويل. وأسهم الحضور المطرد للتطور التكنولوجي في اللعبة، في تحويلها إلى صناعة رأسمالية بامتياز.
لم تكن هذه التحولات - التي تشهدها اللعبة الأكثر شعبية في العالم، والأقل تكلفة في قالبها البسيط، فكل ما يحتاج إليه المرء كرة قابلة للتدحرج والارتداد ومكان منبسط، سواء كان ملعبا رياضيا أو قارعة طريق أو ساحة عمومية أو غيرها، لتكون الظروف صالحة للعب بمعزل عن الرصد والتتبع، وحتى مساعي التوظيف من جانب الدول، بشكل يتوافق مع سياق الأحداث، خاصة بعد نجاحها اللافت في نسج تقاطع بين مجالات السياسة والاقتصاد والترفيه والثقافة.
نجاح هذه الرياضة منحها - بحسب محللين استراتيجيين - موقع السلطة الخامسة في الدول الديمقراطية، إلى جانب الصحافة "السلطة الرابعة" والسلطات الثلاث التقليدية "التشريعية والتنفيذية والقضائية". وذهب التحليل بهيرويج ولفرام الأكاديمي والمؤرخ النمساوي إلى درجة اعتبار كرة القدم الحلقة المهمة في تحقيق اتحاد معنوي في أوروبا، فهي في تقديره "الرابط الضائع في عملية الاندماج الأوروبي"، مشددا على الدور الكبير الذي لعبته في إضفاء مضمون ثقافي على الإطار المؤسسي الأوروبي.

تاريخ من التوظيف السياسي
تاريخيا، يصعب تحديد الحدث الأول الذي مثل اللحظة الأولى لاحتكاك السياسة برياضة كرة القدم، وإن كانت بواكير ابتكار هذه اللعبة التي تعود - وفق وثائق تاريخية - إلى أواسط الألفية الثالثة قبل الميلاد في الصين، باسم لعبة "كو جو" التي تعني الكرة الجلدية، تفيد بأن الملوك قصدوا الاستعاضة بمبارياتها عن الحروب، حيث يتم الاحتكام إلى نتيجة المباراة لفض الخلاف بين القبائل المتحاربة، ويحظى اللاعب الذي يسجل في مرمي الخصم باحتفاء، كما لو أنه بطل في معركة قتال.
في النسخة الحديثة لكرة القدم، وباعتبار هذه الرياضة بريطانية المنشأ، شهدت أول التدخلات السياسية وباسم القانون، بعد إصدار الملك إدوارد الثاني عام 1314 قرارا يقضي بمنع ممارسة هذه الرياضة، ويحكم على كل من يتجرأ على مخالفة القانون بالسجن. وقيل في معرض التفسير السياسي لدواعي اعتماد القرار، إن كرة القدم تلهي عن ممارسة الرماية التي كانت مهمة إلزامية لكل رجل إنجليزي في العصور الوسطى، بسبب الحاجة إليهم في الحروب، وتفيد الأرقام بأن المنع القانوني لرياضة كرة القدم في المملكة، تكرر أكثر من 30 مرة، ما بين 1314 و1667.
تجاوز الموقف من كرة القدم حدود بريطانيا نحو فرنسا، التي استعانت بالكنسية أوساط القرن الـ15 لثني الفرنسيين عن هذه اللعبة، حيث هدد كبير الأساقفة بحرمان لاعبي كرة القدم من الغفران، واصفا الرياضة بكونها "لعبة خطيرة وخبيثة، يجب حظرها بسبب الكراهية والعداوة التي وراء غطاء المرح والترفيه".
كانت كرة القدم من أدوات الدول الاستعمارية، كما أثبت ذلك مؤلفو كتاب "كرة القدم والسياسة: بين المحلي والعالمي"، فقد كانت هذه الرياضة وسيلة للتأثير في السكان الأصليين للمستعمرات، حيث نقرأ "كانت كرة القدم جزءا من مشاريع الاستعمار والإمبريالية، وارتبط تطور كرة القدم بتطور المستعمرات ومستوطنات البيض. كانت كرة القدم في تلك الدول جزءا من مجهودات كبيرة لبناء المستعمرات، وكانت أيضا نوعا من التنظيم والسيطرة الاجتماعية على الشعوب المستعمرة".
وبلغ الاستغلال درجة استدعاء المنتخب الفرنسي لاعبين جزائريين، يلعبون في الدوري الفرنسي، للمشاركة باسم القميص الفرنسي، في الدورة السادسة من بطولة كأس العالم في السويد، عام 1958. رفض الجزائريون هذه الفرصة، وما تعنيه من مجد وشهرة، وفضلوا الوفاء للوطن، بإعلانهم الوقوف إلى جانب جبهة التحرير الوطنية، وذلك بهربهم إلى مقرها في تونس، ما عرضهم لملاحقة من قبل الشرطة الفرنسية.
وحضرت السياسة بقوة في الحقبة المعاصرة، بعدما أدركت الحكومات الفرص التي توفرها المناسبات الكروية، إذ انقلبت ملاعب كرة القدم إلى ساحة للمواجهة وتبادل الرسائل السياسية. وقد تابع العالم بأسره الأمر، بعد اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية، بعد استبعاد مشاركة الأندية والمنتخبات الروسية من جميع المسابقات الرياضية.
قوة ناعمة محل استغلال
مركزية لعبة كرة القدم وضعتها في مدار منافسة بين الدول الأوروبية وبقية العالم، فقد كانت الأولى حتى وقت قريب محتكرة قواعد وضوابط هذه الرياضة، باعتبارها جزءا من الإرث الثقافي والمجتمعي الخاص بها. قبل أن تتعالى الأصوات من جهة الدول النامية، في الأعوام الأخيرة، قصد المطالبة بتحقيق عدالة أكبر في كرة القدم، اللعبة الأكثر شعبية في العالم.
بدأ الأوروبيون بالتدريج يفقدون سيطرتهم على كرة القدم، بفعل التصادم الجيوسياسي حول اللعبة. فبقية دول العالم تنادي بإسقاط الاحتكار الغربي بضمان مزيد من تمثيل دولها في بطولات العالم، علاوة على أحقيتها في استضافة التظاهرات الرياضية العالمية. فاللعبة أضحت اليوم مجالا تتشابك فيه الرياضة بالاقتصاد والسياسة والقضايا المجتمعية، على الرغم من حرص الاتحاد الدولي لكرة القدم الدائم على تحييد كرة القدم من أي تأثيرات سياسية، يمكنها إخراج هذه الرياضة عن إطارها الطبيعي، بوصفها وسيلة ترفيه وأداة للتقارب بين الشعوب والأمم.
وزادت شكيمة الفرق والمنتخبات الوطنية للدول خارج المعسكر الأوروبي من مشروعية هذه المطالب، فتوالي النتائج المسجلة من قبل منتخبات دول تفتقد إلى "الشرعية التاريخية" المزعومة، كما حدث قبل أيام في أكثر من مباراة في بطولة كأس العالم، حيث سحق المنتخب السعودي منتخب الأرجنتين بطل العالم مرتين، وتفوق المنتخب المغربي على المنتخب البلجيكي المصنف ثالثا عالميا، وانتصر الفريق التونسي على فرنسا الفائزة بآخر نسخة من البطولة في روسيا. ما يسقط تباعا الدفوعات المقدمة للاحتكار، فلا شرعية تاريخية ولا شرعية إنجاز بمقدورها أن تنفع هذه الدول بعد اليوم.
وزاد حضور الذكاء الاصطناعي في كرة القدم من تحقيق المساواة بين الدول، فاستخدام هذه التكنولوجيا في الرياضة، أسهم في تقليل هامش الأخطاء، وتوفير كم هائل من البيانات، ساعدت بشكل من الأشكال على تذويب الفوارق بين الدول في كرة القدم. ويتوقع أن يستمر الأمر في التقلص، فأحدث تقرير لشركة الأبحاث والاستشارات الأمريكية يفيد بأن قيمة الذكاء الاصطناعي العالمي في مجال الرياضة تقدر بنحو 1,4 مليار دولار، ويتوقع أن تتعدى 19 مليار دولار بحلول 2030.
لم تعد كرة القدم بصورتها الحالية مجرد لعبة كرة بسيطة، يتصارع حولها 22 لاعبا في مستطيل أخضر بغرض تسجيل أهداف، وتحقيق المتعة للجمهور المتابع، بقدر ما أضحت أداة ناعمة تسعى كل دولة إلى تسخيرها لخدمة مصالحها، فإنتاج لاعب دولي مشهور أو الحصول على فريق محلي متميز أو منتخب وطني رائد تعزز صورة وسمعة الدولة على الساحة العالمية.
من باب التأكيد على سطوة وجبروت هذه الرياضة في العالم، يكفي التذكير بأن الاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا" يبقى المنظمة الوحيدة القادرة على إلزام الدول والأنظمة بقوانينها الموحدة، وفرض خياراتها على اتحادات الكرة، ضمن شروط لا يمكن تجاوزها.

الأكثر قراءة