واشنطن وباريس حليفان .. لكن ليس على الموجة ذاتها
قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بحر الأسبوع الماضي، بزيارة دولية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، هي الثانية من نوعها لواشنطن، منذ توليه رئاسة فرنسا، والأولى له في عهد الرئيس جو بايدن، واضعا بذلك حدا لأزمة دبلوماسية صامتة، دامت أزيد من عام بين الطرفين، بسبب صفقة الغواصات الأسترالية. وما تولد عنها من حلف أمني ثلاثي بين واشنطن ولندن وكانبرا، "تحالف أوكوس"، أسقط أي دور لفرنسا في الاستراتيجية الأمريكية في منطقة المحيطين الهادي والهندي.
تعكس الزيارة - بحسب أعضاء من الوفد الفرنسي المرافق للرئيس - "روح الصداقة الأمريكية - الفرنسية"، خاصة أن ماكرون يحظى للمرة الثانية بشرف أن يكون أول زعيم أجنبي يستقبل في البيت الأبيض، من الرئيس الأمريكي خلال ولايته. أما أعين المراقبين والخبراء، فقرأت فيها الحاجة الماسة إلى رأب الصدع داخل المعسكر الغربي، فرص الصفوف أضحى أولوية قصوى بين دول ضفتي الأطلسي، بحثا عن تفاهمات معينة حول عدد من المسائل، حتى إن بعضا وصفها بـ"زيارة الوقت الحرج".
استقبل جو بايدن إيمانويل ماكرون على طاولة حبلى بالملفات الحارقة، بدءا بتداعيات الحرب الأوكرانية على القارة العجوز، مرورا بأزمة الطاقة التي تتزايد حدتها في أرجاء أوروبا، وانتهاء بقانون الحمائية الأمريكي الذي ينذر بحرب تجارية بين واشنطن وبروكسل، دون إغفال تزايد منسوب التهديدات الصينية، وغيرها من القضايا التي تجعل من المباحثات "تحديا" بالنسبة إلى الطرفين، ما جعل مستشار الرئيس ماكرون يصف الأمر بقوله "نحن حليفان، لكن ليس على الموجة ذاتها".
فرنسا متحدثة باسم الأوروبيين
يحاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن يلعب دور ألمانيا التقليدي، زمن المستشارة أنجيلا ميركل، فقبل أسبوع من رحلته نحو واشنطن، استقبل في باريس كبار رجال الأعمال الأوروبيين، يمثلون شركات كبرى بجنسيات مختلفة "ألمانيا، فرنسا، بريطانيا..."، في رسالة واضحة لأطراف في الخارج قبل الداخل، مفادها أن باريس أضحت ناطقا باسم الأوروبيين، على الجبهتين الاقتصادية والسياسية، وفاعلا محوريا في نسج توازنات مشهد عالمي جديد قيد التشكل.
تدرك باريس محدودية أوراق اللعب على طاولة التفاوض مع واشنطن، لذلك عملت إدارة الرئيس ماكرون على صياغة المسألة في شكل عرض أو "باقة" من أجل التفاوض بشأنها، فبمقدور فرنسا إقناع الأوروبيين، ولا سيما ألمانيا، بالخطر الصيني المحدق، غير أن ذلك يحتاج إلى تنازلات أمريكية، تضفي على كلام باريس نوعا من المصداقية أمام أنظار الأوروبيين. وهذا بالتحديد ما يمثل مشكلة بالنسبة إلى واشنطن، كما جاء على لسان سيلي بيلين الخبيرة الأمريكية، "ليس سهلا دائما إرضاء الفرنسيين، لكن عندما يتفق الفرنسيون والأمريكيون، فإن الأمور تتقدم بشكل أسرع".
ترغب إدارة بايدن في تتويج الزيارة بالتأكيد على موقف أوروبي موحد بشأن الحرب الأوكرانية، ولا سميا في أعقاب استعادة مدينة خيرسون. نظير ذلك، تدفع إدارة ماكرون نحو مساعدة كييف على القتال، مع التأكيد على ضرورة تخفيف حدة التصعيد ضد روسيا. ولا يتردد ماكرون من التذكير بموقفه الدبلوماسي التوفيقي المزعج لواشنطن منذ بداية الحرب، بعزمه منتصف الشهر الجاري، تنظيم مؤتمر في باريس لدعم المقاومة المدنية في أوكرانيا، وتأكيد عزمه التحدث مجددا مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في المقبل من الأيام.
للصين نصيب من الزيارة أيضا، فطموحات واشنطن واضحة حيال مسألة التنسيق بين دول ضفتي الأطلسي لاحتواء التهديدات الصينية، فالشكوك قائمة لدى الإدارة الأمريكية حول نجاح الدبلوماسية الناعمة لبكين في تسجيل اختراقات مهمة في الداخل الأوروبي. تحقيق تفاهم في هذه النقطة أمر عصي، لكونها من أوراق باريس الأساسية في مساومة واشنطن، ولا سميا أن ماكرون قد أعلن سلفا عن زيارة مرتقبة إلى الصين مطلع العام المقبل، ما يفرض على بايدن التعاطي بجدية مطلقة مع المطالب الفرنسية، متى رغب في موقف موحد ودعم أوروبي للاستراتيجية الأمريكية، خاصة فرنسا التي تمتلك أراضي في منطقة المحيطين الهندي والهادي.
أفضلية لأوروبا أو حرب تجارية
يبقى الملف التجاري أكثر النقط الخلافية بين الطرفين، إذ لم يتجاوز الأوروبيون بعد تداعيات الغاز الأمريكي المستورد بأثمان مضاعفة، ما جعل الاتحاد الأوروبي في موقع المتحمل الوحيد لتبعات الحرب والعقوبات المفروضة على روسيا. حتى واجهتهم واشنطن بقانون خفض التضخم الذي صوت عليه كل الديمقراطيين في الكونجرس، في آب (أغسطس) الماضي، ما ينذر بحرب تجارية أوروبية - أمريكية. خاصة أن فرص مراجعة القانون في ظل الكونجرس الجديد، بأغلبية جمهورية، تبدو صعبة إن لم تكن مستحيلة. ما يدفع ماكرون إلى التشدد في الدفاع عن المصالح الأوروبية، فلا بديل لأوروبا عن إعفاء أمريكي من تداعيات القانون، على غرار الإعفاءات الأمريكية من الضرائب الممنوحة لكندا أو المكسيك.
يرى الأوروبيون أن الدعم المالي السخي الممنوح للمصنعين الأمريكيين بفضل هذا القانون، يعني ضربة قوية للشركات الأوروبية التي تعاني أصلا، بفعل ارتفاع تكلفة الطاقة نتيجة العقوبات على روسيا. ما دفع مقربا من ماكرون إلى التعليق بقوله "هناك خطر من أن يصبح انعدام التكافؤ بين الولايات المتحدة وأوروبا أكبر، فيما تدفع القارة فاتورة باهظة للطاقة، بينما تتخذ الولايات المتحدة إجراءات لحماية شركاتها، ودعم الاستثمار في صناعاتها".
كان ماكرون واعيا بتعقيدات المسألة، ما حدا به إلى إثارتها في مستهل زيارته، قبل لقاء بايدن، في خطابه في السفارة الفرنسية، حين حذر من "خطر أن تذهب أوروبا عموما، وفرنسا تحديدا ضحية التنافس التجاري الراهن بين واشنطن وبكين، أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم"، معتبرا القانون "يهدد بتفتيت الغرب". هذا وعلق في وقت سابق على القانون ذاته بقوله "نحن بحاجة إلى قانون أوروبي مثل الأمريكي، الصين تحمي صناعتها، والولايات المتحدة تحمي صناعتها، أما أوروبا فهي كمنزل مفتوح".
يدرك ماكرون جيدا في الآن ذاته ضعف موقفه التفاوضي، فانحسار النفوذ الفرنسي في إفريقيا أضحى موضع إجماع حتى في الداخل الفرنسي، كما أن تراجع اللغة الفرنسية بات حقيقة أكدتها بنفسها في قمة جربة للفرنكوفونية الشهر الماضي، ما وضعه في موقع يراوح بين الهجوم على قانون الحمائية واستجداء الامتيازات الضريبية، حين خاطب وفدا من أعضاء الكونجريس "ضعوا أنفسكم في مكاني.. لم يتصل بي أحد عندما كان قانون خفض التضخم يناقش"، طالبا من الأمريكيين "الاحترام كصديق جيد".