التوطين الصناعي .. خيار استراتيجي في عالم مضطرب
جاءت الحرب الروسية - الأوكرانية لتثبت ما حذر منه فيروس كورونا، فريح العولمة كما رياحها لا تستثني أحدا حين هبوبها، فالعالم بأسره بات رهينة نسائم أو لفائح هذا التشبيك الكوكبي، فلا مفر منه إلا إليه. حقيقة دفعت عديدا من الدول إلى البحث عن بدائل، يمكن الاعتماد عليها للحد من تداعيات الخلل التي يمكن أن تصيب حلقة من حلقات سلاسل التوريد، نتيجة طارئ طبيعي، كالأوبئة والكوارث المناخية...، أو طارئ بشري من قبيل الحروب.
نتيجة لذلك، انتعشت بشكل ملحوظ، في الآونة الأخيرة، فكرة توطين الصناعات، حيث شرع كثير من الدول عربيا وحتى عالميا، في تبني سياسات تحث على ضرورة توطين أصناف من الصناعات، حسب الأولويات والبرامج الحكومية أو الرهانات الاستراتيجية لهذه الدول. فعناية الدولة بهذه الصناعة على حساب أخرى، غالبا ما تكون محكومة بمحدد موضوعي، قد يرتبط برؤية وطنية أو سياسية قطاعية أو فقط بأهمية تلك الصناعة، بالنسبة إلى هذه الدولة، على صعيد التنافس العالمي.
زمنيا، انطلق سباق التوطين على الصعيد العالمي قبل بضعة أعوام، في الدول ذات الرؤية الاستراتيجية المتكاملة للمستقبل، قبل أن يصير مع جائحة كورونا أولوية تتصدر أجندات الحكومات المحلية، فالذاكرة تعج بقصص عجز ممزوج باستسلام عاشتها دول كبرى في انتظار أبسط الأدوات "معقم، كمامة، قفازات...". ثم ما لبثت الحرب الروسية - الأوكرانية أن جعلت من مسألة التوطين أولوية قصوى لدى الدول كافة، بعدما اهتزت سلاسل الإمدادات العالمية في الطاقة كما في الأغذية.
التوطين ضرورة طارئة
اشتداد وطأة الحرب التجارية بين بكين وواشنطن، دفع بالأخيرة إلى المسارعة نحو توطين صناعات معينة، تخشى الولايات المتحدة الأمريكية أن تجعلها تحت رحمة الصين. فحظي توطين صناعة أشباه الموصلات باهتمام أمريكي كبير، انتهى باستثمار ضخم يقدر بـ20 مليار دولار، مطلع العام الماضي، لشركة إنتل العملاقة لإنتاج الرقائق الإلكترونية، ما يعني حماية سلاسل إنتاج وتوريد هذه الصناعة الحيوية في الهواتف والحواسيب والسيارات... كما يضمن فكاك واشنطن من التبعية لآسيا.
وزادت التوترات الناجمة عن الحرب في أوكرانيا التوطين أهمية، خاصة مع تباين المواقف بشأن الحرب، وما رافق ذلك من محاور وأحلاف، راوحت بين الولاء لأحد الحلفين أو الانحياز للحياد تجاه الطرفين، ما انعكس بشكل كبير على مجريات عمليات التوريد، التي تداعت في شتى أصقاع العالم، بسبب يوميات الحرب في أوكرانيا والعقوبات الاقتصادية الغربية على روسيا. ما أدى إلى إشعال فتيل حرب أخرى موازية، لا تقل ضراوة عن حرب الأسلحة، يتعلق الأمر بالصراع على الموارد الغذائية "الحبوب والزيوت..." والطاقية "البترول والغاز...".
كانت إفريقيا الرقعة الأكثر تضررا من الحرب على الموارد، ما جعل التوطين يتصدر أولويات حكومات الدول الإفريقية، متخذا شكل سياسات وطنية تتبناها حكومات محلية أو تنسيق بيني يضم أكثر من دولة، على غرار الشراكة بين ناميبيا وغانا في قطاع الزراعة والثروة الحيوانية مثلا، غايته توطين سلع غذائية معينة في القارة الإفريقية. وبلغ الأمر درجة حديث أصوات إفريقية عن التوطين المشترك، كل ذلك سعيا إلى تقوية الأمن الغذائي الإفريقي بوقف الاعتماد على السلع والمنتجات من خارج القارة السمراء.
مركزية التوطين دفعت بالإمارات إلى العمل على تقنين الأمر رسميا، أواخر العام الماضي، بمرسوم القانون الاتحادي رقم 25 لعام 2022، يظهر الاهتمام الحكومي بالسعي وراء تحقيق الاكتفاء الذاتي، من خلال تطوير سياسات توطين الصناعات في الدولة، علاوة على الحرص على الاستفادة من التحولات الجارية في الاقتصاد العالمي، من خلال تقديم نفسها بديلا بمقدوره احتضان بعض الصناعات، بالحرص على إبداء قدرتها على المرونة والاستجابة السريعة للتحديات للأزمات الدولية الطارئة.
التوطين استراتيجية وطنية
بدل الاهتمام الطارئ بسياسات التوطين تحت وطأة الإكراه، بفعل الجائحة أولا ثم الحرب ثانيا، فضلت دول اعتماده ركيزة أساسية في سياساتها القطاعية، ضمن رؤية وطنية أعم وأشمل، رغم ما قد يفرضه توطين الصناعات من تكلفة. إلا أن الأمر يبقى بالنسبة إليها تحديا قوميا ينبغي كسبه، فعوائد هذا الرهان في المستقبل، سواء ما تعلق بتخفيف فاتورة الاستيراد أو تخفيض معدلات البطالة، تتجاوز حجم الإنفاق على عملية التوطين، ما يجعلها حلا من الحلول المستدامة لمواجهة الأزمات الاقتصادية.
تعد المملكة العربية السعودية نموذجا رائدا في التوطين الصناعي، باعتباره خيارا استراتيجيا للدولة، وثابتا من الثوابت الأساسية في رؤية 2030، لا مجرد سياسة ظرفية طارئة، فرضتها التحولات المتلاحقة على الصعيد الدولي، فاتجهت البلاد، منذ الإعلان عن الرؤية، نحو توطين عدد من الصناعات الرئيسة، سعيا وراء نهضة صناعية مستدامة، تمنح البلاد أعلى نسب الاكتفاء الذاتي، علاوة على كون تلك السياسة السبيل المثلى لتحقيق الأمن القومي للمملكة، على أكثر من صعيد وجبهة.
نتائج هذا الاختيار المركزي في رؤية البلاد، بدأت تظهر بعد القفزة النوعية في قطاع صناعة الأغذية، ما دفع المملكة، في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، إلى إعلان عزمها على رفع نسبة التوطين في مجال الصناعات الغذائية إلى 85 في المائة، بنهاية العقد الحالي، ما يوفر للمملكة مستويات قياسية من الاستقلال الذاتي في مجال الأغذية، وفي النتيجة يحقق درجة عالية من الأمن الغذائي بحلول عام 2030.
امتدت سياسات التوطين إلى الصناعات العسكرية والدفاعية، فهي الأساس لحماية الأمن القومي للبلاد، لذلك تحضر بدورها في دائرة المجالات المستهدفة بالتوطين، خاصة أن البلاد تمتلك من الإمكانات المادية والموارد الطبيعية الغنية والكفاءات البشرية الطموحة ما يؤهلها لتطوير صناعة دفاعية، سيرا على نهج الأسلاف، فالاستقلال العسكري خيار قديم يتجدد، منذ أواسط القرن الماضي مع "المصانع الحربية" عام 1950. كل هذا يؤهل المملكة لكي تتحول إلى رائد في مجال الصناعات العسكرية، إقليميا وعالميا، كما يتيح لها هامشا أكبر من الاستقلالية في مجال الدفاع والأمن.
التوطين توجه مستقبلي
يوم بعد آخر يتزايد رهان الدول عالميا على التوطين، ولو في حدوده الدنيا، كخيار لا محيد عنه، فالارتباط بالخارج يؤثر في استقلالية الدولة، أيا كانت قوتها وشأنها. فمهما بلغت بها الفراسة والنباهة لا مفر لها من الوقوع ضحية الطوارئ الطبيعية أو البشرية، إما مباشرة أو بطريقة غير مباشرة. فما أكثر الدول المحايدة اليوم بشأن الحرب الروسية - الأوكرانية، رغم كونها في الصفوف الأولى من حيث التأثير والتداعيات.
يتوقع أن تعزز ثمار التوطين من حيث التكلفة المالية والزمنية والبيئية من الإقبال على هذه السياسة، فالمعيار البيئي على سبيل المثال، يفيد بأن النقل الدولي، بمختلف أشكاله، مسؤول عن 33 في المائة من الانبعاثات المرتبطة بالتجارة العالمية. ما يجعل التوطين، بالنسبة إلى عدد كبير من أنصار البيئة خيارا أمثل لمواجهة المعضلة المناخية، علاوة على الآثار الإيجابية لهذه السياسة على الصعيد الاقتصادي، فبفضلها تراوح المؤشرات ما بين الارتفاع والانخفاض، بتوفير فرص شغل جديدة، مقابل تقليص نسب البطالة في صفوف العاطلين عن العمل، وزيادة الإيرادات الضريبية للدولة، ما يعني ضخ مزيد من السيولة في خزينة الدولة، وفي المحصلة يتم تنشيط الدورة الاقتصادية في الدولة.
ويبقى هذا الخيار درعا واقية للدولة من الصدمات والأزمات الطارئة التي قد تحدث بين الفينة والأخرى، على الصعيد العالمي، التي يتوقع أن تزداد وتيرتها في المستقبل، في ظل الغموض والتيه الذي يشهده النظام العالمي الحالي، فالعالم أشبه بسفينة في بحر لجي تسير بغير هدى ولا بوصلة.